ماء بطعم المعاناة… جفاف الوادي الأخضر
تقرير: محمد ديوب
رغم هدير الحرب الذي اجتاح السودان منذ أبريل 2023، ظلّ الناس في بعض المناطق يسابقون الخراب بمحاولات يومية للبقاء. في أطراف المدن، حيث لا سلطة واضحة، ولا دولة قائمة، برزت تحديات كبرى في سبيل الوصول إلى أبسط الخدمات، وعلى رأسها مياه الشرب. بين الوعود الحكومية، ومجهودات المنظمات، ومبادرات الخيرين، تنسج المجتمعات المحلية حكايات صمودهاK حكايات تبدأ من شحّ الماء، ولا تنتهي عند استغلال بعض التجار للأزمات.
قسوة الحرب وغلاء الماء
في مربع (21) من حي الوادي الأخضر في مدينة الخرطوم بحري، تقف السيدة عواطف، ربّة منزل، أمام مشهدٍ يوميّ لا يقلّ قسوةً عن الحرب، إذ أصبح الوصول إلى المياه مهمةً مرهقة، وتكاليفها تتبدل كما تتبدل أيام الحرب. تقول عواطف: “سعر برميل الماء غير ثابت، عندما تعمل البيارة القريبة، نشتري البرميل بأربعة آلاف جنيه. أما إذا توقفت، واضطررنا للاعتماد على البيارة البعيدة، فقد يصل السعر إلى ثمانية أو تسعة، بل وحتى عشرة آلاف جنيه”.
وتوضح أن البيارة الحكومية – التي يُفترض أن توفّر المياه مجانًا لسكان الحي – تعمل بمولد كهربائي، مما حوّلها فعليًا إلى مصدر لبيع المياه بدلًا من توزيعها مجانًا. وعندما تتوقف، لا يكون أمام السكان سوى الاعتماد على بيارة بمنطقة الغار.
وتتابع: “إذا ذهبتَ لجلب الماء بنفسك مستخدمًا (الدرداقة)، قد تحصل على برميل أو اثنين مجانًا، لكن الناس عاجزون عن ذلك لبُعد المسافة، لذا يعتمدون على أصحاب الكارو، الذين يشترون البرميل بألف وخمسمئة جنيه، ويبيعونه لنا بثمانية أو تسعة، وقد يصل حتى عشرة آلاف”.
في هذا المشهد، يتحوّل الماء من حقٍّ أساسيّ تلتزم الدولة بتوفيره، إلى سلعة تُباع وتُشترى، تتحكم فيها المسافة، والقدرة الجسدية، والظروف المعيشية. فبالنسبة لعواطف، وكثيرين في حي الوادي الأخضر، بات تأمين الماء يوميًا عبئًا لا يُطاق. وفي نفس الحي، شرق النيل، تتكرر مشاهد الصفوف الطويلة، حيث يصطف الرجال والنساء والأطفال منذ الرابعة صباحًا، حاملين جِرَاكِنهم وبراميلهم في انتظار دورهم للحصول على “باقتين موية”، أو أربعة إن تيسّر الحال.
إستجداء الماء
فوق هذه الأرض الجافة، تقف امرأة بسيطة، لا تحمل منصبًا، ولا تملك مالًا وفيرًا، لكنها تحمل همّ الناس هناك، كما بدا من حديثها. إنها إقبال، التي أنشأت وقفًا خيريًا صغيرًا في مربع (15) قبل اندلاع الحرب، ونقلت جهودها إلى مربع (21) مع تصاعد الأزمة. ومنذ اليوم الرابع للحرب، دشّنت “تكية”، لا تزال تعمل منذ 20 أبريل 2023، تُعدّ فيها وجبات العدس وتُوزَّع على نحو 700 أسرة، بجهد فردي، واعتمادٍ على “الشحدة”، كما تسميها، والتبرعات.
تقول إقبال، صاحبة مبادرة “تكية المطبخ المركزي”: “كل أسرة تأخذ باغتين من الماء مع وجبة العدس، أي ما يعادل كمشتين… وإذا تبقّى ماء، نوزّع أربعة جِرَاكِن. أما الليلة، فما عندي حتى حق التنكر، والناس منتظرين من الفجر، من الساعة أربعة الصباح، ختوا جِرَاكِنهم وبراميلهم في الصف، وما في حل تاني. حتى الشفع شايلين البراميل من مسافات بعيدة”.
تكلفة تنكر المياه تبلغ 300 ألف جنيه إذا كانت سعته 110 براميل، وإذا لم يتوفر المبلغ، تُضطر لشراء تنكر أصغر (55 برميل) بنصف القيمة، لكن الحاجة دائمًا أكبر من الإمكانيات. وتضيف: “كل من يسكن هنا أيتام أو ناس فقراء… الحلة كلها في الصف عشان كمشتين عدس”.
وحين الحديث عن حلول دائمة، تشير إلى أن البيارة الرئيسية تحتاج إلى طاقة تشغيل بقوة 100 حصان، عبر منظومة طاقة شمسية مكوّنة من 180 لوحًا، وتقدّر تكلفتها بنحو 102 مليون جنيه. وتقول إنها ذهبت إلى المحلية، فقيل لها: “ادفعي نص المبلغ، والمنظومة جاهزة.” تتساءل بأسى: “لكن من وين أجيب نص المبلغ؟ وأنا بالكاد أقدر أوفر قوت اليوم وحق الموية؟ التكية والموية ذاتن بنشحد ليها عديل، كل يوم في الوسائط، في اللايفات، في التيك توك… نوري الناس الحالة”.
مؤخرًا، تبرعت منظمة “سودان زيرو ويست” بتنكر واحد أسبوعيًا، لكنها تقول إن ذلك لا يكفي. وتختم بنداء: “نناشد الحكومة، والي الخرطوم، المنظمات، يلحقونا.. يجو يشوفونا. ولا ورونا المسؤول منو مننا؟ نحنا ناس الوادي الأخضر”.
سوء التخطيط… وأزمة مياه معلّقة منذ التأسيس
لم تنشأ أزمة المياه في حي الوادي الأخضر بشرق النيل نتيجة الحرب فقط، بل تعود جذورها إلى لحظة التأسيس الأولى للمشروع السكني، فبحسب رئيس لجنة البناء والتعمير السابق الاستاذ عباس محجوب، فقد أُقيمت المدينة على حوض مياه جوفية مالحة، دون إجراء دراسات جيولوجية أو بيئية دقيقة، رغم أن المشروع خُطِّط ليضم مئات المربعات السكنية. وحتى اليوم، لم يُنفّذ منه سوى أربعة مربعات فقط: 14، 15، 20، و21.
في البداية، حفر صندوق الإسكان ثلاث آبار في كل مربع لتأمين مياه البناء، وركّب صهاريج تخزين. لكن بعد انتهاء المرحلة الأولى، تم التخلي عن الآبار ونقل الصهاريج، مما أضاع بنية تحتية كان يمكن أن تخفف لاحقًا من أزمة المياه.
ولتعويض غياب مصدر داخلي للمياه، لجأت هيئة مياه المدن إلى تغذية المنطقة من منطقة “التلال”، الواقعة على بُعد نحو سبعة كيلومترات، وبسبب طول الخط الناقل وتعدد القرى المرتبطة به (نحو 13 قرية)، أصبح تشغيل بئرين بطاقة 100 و50 حصانًا ضرورة لتغطية الحد الأدنى من الاحتياج، شرط استمرارهما في العمل دون انقطاع.
ورغم أن هذه البئرين كافيتان نظريًا، فإن الاعتماد على المولدات والوقود في ظل الأزمة الاقتصادية وانقطاع الكهرباء المتكرر، جعل الحل غير مستدام. ولهذا ترى اللجنة أن تحويل تشغيل الآبار إلى منظومات طاقة شمسية هو الحل الفني الوحيد، وقد أُعدت دراسة كاملة لذلك وقُدمت لعدة منظمات، لكن الوعود لم تتحول إلى أفعال.
وتفاقمت الأزمة مع ارتفاع أسعار مكونات الطاقة الشمسية، ما جعل تركيبها شبه مستحيل بجهود المجتمع المحلي، خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، حيث يُصنَّف معظم السكان تحت خط الفقر.

وعند سؤاله حول ما يُتداول عن اشتراط المحلية دفع نصف تكلفة منظومات الطاقة الشمسية مقابل تركيبها، نفى رئيس اللجنة ذلك تمامًا، مؤكدًا أن “مثل هذا العرض لا وجود له على أرض الواقع”، مشيرًا إلى أن المحليات نفسها تعاني من نقص في الوقود، وعاجزة عن تمويل مشاريع البنية التحتية.
رؤية رسمية: جهود تُبذل… ومخاوف مستقبلية
في حديثه لـ،أوضح الأستاذ مكاوي، المسؤول عن المياه في المحلية، أن المواطنين لم يُطلب منهم دفع أي مقابل لتركيب منظومات الطاقة الشمسية التي وصلت إلى المنطقة. وقال:
“المنظومات جات جاهزة من الولاية وتم توزيعها مباشرة، ما طلبنا من المواطنين ولا جنيه.”
وأضاف أن المحلية تواصلت مع إحدى المنظمات، التي تمدّها حاليًا بالوقود لأكثر من ثلاثين محطة مياه، لمدة شهر ونصف، ولا تزال جهودها مستمرة حتى اليوم. غير أن الصورة تبقى غير واضحة لما بعد انتهاء هذه الفترة.
وأشار إلى وجود تنسيق مع متبرعين أفراد، كما ساهمت الولاية بإرسال عشر منظومات إضافية تم توزيعها بالفعل، في انتظار دفعات أخرى قيد الوصول.
وأكد مكاوي أن شبكة المياه تعمل بصورة جيدة، وهناك خطط لإيصال الخدمة إلى مناطق جديدة، قائلاً: “حتى الأماكن الما فيها آبار، بتصلها الموية.”
وشدّد على أن الضغط على الشبكة ازداد بعد عودة عدد كبير من السكان إلى المنطقة، موضحًا أن المحلية تعمل على إعادة تنظيم عملية البيع عبر البراميل وفقًا للضوابط السابقة، وأضاف:
“حالياً بنرتب أوضاعنا، وحنجيب ناس مبيعات ونضبط الشغل قريب.”
واختتم حديثه بالإشارة إلى تحسن وضع الكهرباء، مما أسهم في إعادة عدد كبير من الآبار إلى الخدمة، ما انعكس إيجابًا على الإمداد المائي بعدة أحياء.
بالرغم من التحديات اليومية، يواصل سكان حي الوادي الأخضر ترتيب أولوياتهم وتكييف حياتهم وفق ما تتيحه الظروف. وبين مبادرات فردية وجهود رسمية محدودة، تبقى الحاجة إلى حلول مستدامة قائمة، في انتظار ما قد تحمله الأيام القادمة.