الحكومة الانتقالية.. أزمات خانقة وإرادة للعبور (10)
بقلم: حسين سعد
أبرمت العديد من إتفاقيات السلام بالسودان، لكنها لم تحقق السلم المستدام، بل حققت هدنة بسيطة وسرعان ما أعقبتها حربٌ ضروس، ولم تغص تلك الاتفاقيات في أسباب النزاع بل مضت في معالجة (كيفيات) توزيع السلطة والثروة بين البنيات/ القوى السياسية المتصارعة، دون أن تعير كبير اعتبار لكيفية أن تنال القواعد الاجتماعية التي تنتمي إليها هذه البنيات أي شيء من هذه المحاصصات. وهو ما يفسِّر لماذا كان تنفيذ هذه الإتفاقيات دائماً ما ينتهي عند مستوى توزيع الحقائب بين الحكومة وخصومها.
ويشير الأستاذ التجاني الحاج في ورقة له بعنوان (مستقبل السلام في السودان) الى أن تجدد النزاعات الداخلية والحروب في تاريخ الشعوب والأنظمة السياسية ليس نتاج المصادفة، إنما يجد جذوره في كيمياء التحوّلات الداخلية الخاصة بهذه المجتمعات وأنظمتها السياسية. وتلعب معادلات توازن المصالح الإقتصادية الاجتماعية وصراعات السلطة، دوراً رئيسياً في إندلاع النزاعات وإستمراريتها. وفي السودان وعندما نعيد قراءة الأزمة تلفت نظرنا حقيقة هامة، ألا وهي نمطية تكرار الصراعات وأسبابها، فالحرب الأهلية الأولى بين شمال السودان وجنوبه، إنتهت في 1972م بإتفاقية أديس أبابا. لكن بالرغم من ذلك تجددت بعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ إستناداً لنفس الأسباب، وأيضاً اندلعت الحرب هذه المرة في الشمال نفسه (دارفور، شرق السودان، جنوب كردفان والنيل الأزرق) لنفس الأسباب أيضاً. هذا التطور يمكّننا – من الناحية النظريةـ من أن نعيد طرح القضية بصيغة أكثر عمومية، باعتبار أنه وفي الحالة السودانية، وعلى خلفية تشابه أسباب الصراعات منذ الاستقلال وحتى الآن بأن هناك: ثمة علاقة عضوية هيكلية تربط ما بين الهيمنة السياسية الثقافية القائمة على أيديولوجيا العروبة والإسلام والمربوطة بأهداف السيطرة والإستحواذ من جانب، وإستمرارية النزاع واستدامته من جانب ثانٍ، وتقف هذه العلاقة كسبب جوهري وراء إستمرار الحرب لفترة طويلة.
صراع حاد:
وأكد التجاني فشل أغلب المحاولات لإيجاد تسوية عادلة للنزاع، حيث شكّلت هذه العلاقة العمود الفقري لرؤية وسياسات وآليات الدولة المركزية ونخبها في السودان وتعاملها مع الثورات التي إندلعت ضدها في المناطق المختلفة من البلاد (الجنوب، الشرق، الغرب)، سواءاً في حالات الحرب، أو خلال رحلات البحث عن السلام عبر المنابر المختلفة. وأصبحت بذلك ثابتاً لا يتغير في أجندات الحكومات المركزية المختلفة، مهما تفاوتت مواقعها الآيديولوجية. لذلك نجد أن نظام الإسلام السياسي، وما تفرّخ منه في السودان نتيجة للإنقسامات الداخلية، ما هو إلا محصلة نهائية، عبّرت عن هذه العلاقة في أقصى صورها تطرفاً وعنفاً. وبالتالي؛ من الصعب رؤية قضية الحرب والسلام بمعزل عن هذه العلاقة، مستدعين في الذهن طبيعة ونمط التطور الإجتماعي الإقتصادي السياسي الذي سارت عبره الدولة السودانية منذ إستقلالها. إن كل ذلك يقودنا إلى إستنتاج حاسم هو: أن أزمة الدولة السودانية، تكمن في عدم قدرة النخب على الإتفاق على مشروع وطني، مظهره الطافي؛ صراع حاد ما بين مركز مسيطر وهامش يفتقر للتطور على كافة الأصعدة. إن هذه الأزمة من الإنصاف القول أنها ليست نتاج السياسات الإستعمارية لوحدها، كما درجت الكثير من الكتابات التي دأبت على ذلك التفسير المنمّط. صحيح من الزاوية الموضوعية، وفي مسيرة البحث عن جذور الإشكاليات الوطنية، التعرّض للدور الذي لعبه الإستعمار، لكن الأكثر صحة منه، هو عدم القفز فوق أو تجاهل الدور الذي لعبته الحكومات الوطنية التي أعقبت الإستعمار أيضاً، فكلها سلسلة مترابطة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض. لقد خرج المستعمر نعم، لكنه أورث بنية الدولة التي أسسها لخدمة مصالحه، لنخب وأنظمة سياسية حكمت من بعده. وليس في السودان وحده، بل كثير من الدول الإفريقية مرت بهذه التجربة
فشل اتفاقيات السلام
ويقول الأستاذ التجاني الحاج في ورقة له بعنوان (مستقبل السلام في السودان) أن الملاحظة الواجب تدوينها حول إتفاقية السلام الشامل (CPA)وما تبعها من إتفاقيات (أبوجا، القاهرة، الشرق) هي إنها ــ أي هذه الاتفاقياتـ بنيوياً ما كان بإمكانها أن تصنع سلاماً أو إستقراراً، وذلك تأسيساً على الخلفية المذكورة عاليه. وهو ما جعلها تتحرك فوق سطح هذه النزاعات معالجةً مظاهرها الطافية دون أن تغوص أو تبحث في أسبابها العميقة المرتبطة بتاريخ تكُّون ونشأة الدولة السودانية خلال الفترة الكولونيالية وما بعدها خلال فترة الحكم الوطني Colonial and Post-Colonial Era. فالظاهر للعيان أنها إكتفت فقط ـأي هذه الإتفاقيات ـ بمعالجة “كيفيات” توزيع السلطة والثروة بين البنيات/ القوى السياسية المتصارعة، دون أن تعير كبير إعتبار لكيفية إن تنال القواعد الاجتماعية التي تنتمي إليها هذه البنيات أي شئ من هذه المحاصصات. وهو ما يفسِّر لماذا كان تنفيذ هذه الإتفاقيات دائماً ماينتهي عند مستوى توزيع الحقائب بين الحكومة وخصومها من رفاق النضال المسلح ويمكن إرجاع ذلك في جانب من الجوانب إلى الضعف الداخلي (البنيوي والسيوسيولوجي والتاريخي) لهذه الإتفاقيات في عدم قدرتها على فرض الإستقرار وضمان إستفادة القواعد الاجتماعية منه، ثم تضاف إليه من بعد ذلك الأسباب الأخرى من تآمرات النخب الحاكمة، التواطوء أو إنعدام القدرة على فرض التنفيذ للقوى الثائرة. وعلى الرغم من أن هذه قراءة قد لا يتفق معها البعض، غير أنها في تقديرنا تبقى أقرب للواقعية، نقول ذلك على خلفية الصعوبات التي واجهت عمليات التنفيذ والنتائج التي ترتبت عليها من بعد. نعم؛ جميع هذه الإتفاقيات ناقشت قضايا قسمة الثروة والسلطة كحجر أساس لإعادة التوازن في إختلالات التنمية ما بين المركز والهامش، بين الحكومة وخصومها. ومهما إختلفت موازنات التقسيم التي نتجت ما بين الفرقاء، فقد ظلت محكومة على مستوى المواجهة بوضعية “توازن الضعف المؤلم” Hurting Stalemate التي أوصلت الأطراف جميعها إلى طاولة المفاوضات، إضافة إلى شروط المفاوضات، والتي تمت تحت الضغوط الدولية والإقليمية المربوطة بالمصالح ذات الصلة، وأخيراً يقف عمق الأزمة السودانية في عمومياته المتمثل في بنية العلاقات التي خلفها الإستعمار والحكومات الوطنية التي أعقبته بمثابة التربة التي تغذي كل هذه الصراعات ببنيتها اللاشعورية التي تبرر الصراع وإستدامته. لذلك؛ كان التحدي الأصعب أمام هذه الإتفاقيات، هو إمتحان مدى قدرتها على تحقيق التحوّل في السودان من وضعية الدولة المأزومة، إلى دولة تحقق المشاركة العادلة للجميع. ويمكن القول بسهولة الأن أن هذه قضية لم تضعها هذه الإتفاقيات في حساباتها من خلال سقوف الضمانات وآليات الإلزام على التطبيق، والمحصلة النهائية إنها تعرضت ـ وبدرجات متفاوتة وتحت مبررات مختلفةـ للتآكل وإنتهت إلى الإنهيار. (يتبع)