المشورة الشعبية.. عود على بدء
بقلم: حيدر المكاشفي
أعادت الحركة الشعبية شمال بقيادة القائد عبد العزيز الحلو، طرح صيغة المشورة الشعبية Popular Consultation في مفاوضاتها مع الحكومة التي تم تعليقها مؤخرا، وكانت صيغة المشورة الشعبية وردت لأول مرة في أدبيات السياسة السودانية في بروتكول حسم النزاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق باتفاقية السلام الشامل (2005)، المعروفة إعلامياً باتفاقية نيفاشا، وتضمنتها المادة 182 (2) من الدستور الانتقالي وقانون تنظيم المشورة الشعبية لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق لسنة 2010م.. وقد هيأت لي ظروف إعدادي لورقة حول دور الإعلام في التبشير بالمشورة الشعبية أن أتعمق أكثر في هذا المصطلح الجديد، والذي لم يكن يوليه غالب الناس أي اهتمام، كان ذلك عندما كلفتني بعثة الأمم المتحدة (يونيمس) بإعداد هذه الورقة، وبعد فراغي منها وتسليمها لهم طلبوا مني مرافقتهم إلى مدينة القضارف، لاستعراض الورقة في ورشة رتبوا لإقامتها هناك، وكان من البدهي أن يثور سؤال في ذهني عن سبب تنظيم ورشة حول المشورة الشعبية بالقضارف، رغم أنها ليست من الولايات المعنية بها (ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان)، غير أنني عند انعقاد الورشة عرفت السبب فبطل العجب، ذلك أن القضارف رغم أنها كولاية ليست معنية بالمشورة إلا أنها تعج بأعداد كبيرة من مواطني الولايتين المعنيتين بها، ولهم في إبداء رأيهم في المشورة مثل ما لأهلهم القاطنين داخل حدودهما، وأذكر من المواقف المحرجة التي تعرضت لها عند استعراضي للورقة أمام الحضور الكبير من أهلنا النوبة؛ أنني عندما قلت إن (الرطانات) المحلية لها دور كبير في التعريف بالمشورة الشعبية، لحظتها هاجت القاعة وماجت واستشاطت غضباً لاستخدامي عبارة (رطانات)، فطالبوني بالاعتذار عنها وشطبها من الورقة واستبدالها بعبارة (لغات)، وقد فعلت ذلك عن قناعة لا رهبة، فاعتذرت واستبدلت (رطانات) بـ(لغات)..
أذكر أنني خرجت من تلك التجربة بفوائد جمة وكذلك ملاحظات عديدة، من تلك الملاحظات هي أنه إذا كان من المهم ابتدار حملات تعريفية بالمشورة الشعبية والتشجيع والتحريض على الحرص على ممارستها باعتبار ما ستحققه من مكاسب لأصحابها؛ فإن الأهم من ذلك هو التوافق على تعريف لها يحدد ماهيتها ومآلاتها النهائية بشكل واضح وقاطع، لا يترك زيادة لمتزيد تتفق وتتواضع عليه كل الأطراف المعنية بها، ولا يكفي هنا الدفع بأن النص القانوني الذي حدد الهدف منها والذي يُقرأ: (تهدف المشورة الشعبية إلى تأكيد وجهة نظر شعبي ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بشأن إتفاقية السلام الشامل (اتفاقية نيفاشا) بخصوص أيٍ من الولايتين وعن مدى تحقيقها لتطلعاتهم، والتسوية النهائية للنزاع السياسي في أيٍ من الولايتين وإرساء السلام، وتصحيح أي قصور في الترتيبات الدستورية والسياسية والإدارية والاقتصادية في إطار اتفاقية السلام الشامل بخصوص أيٍ من الولايتين، فمبعث القلق من ذلك ليس مصدره فقط أن الشيطان قد يكمن في التفاسير أيضاً وليس التفاصيل وحدها، بل لأن هذا الاختلاف قد برز فعلاً حتى قبل أن تبدأ المشورة، وهو خلاف واختلاف ليس من الحصافة التقليل من شأنه بحجة أنه محض خلاف مختلف لا أصل له في قانون المشورة الذي حدد الهدف منها، فمهما صح ذلك إلا أنه ولأجل بلوغ المشورة غايتها في القبول والرضاء بها وبنتائجها ومردوداتها الهادفة لاستدامة السلام، لا يصح التقليل من شأن كل ما يمكن أن يشوش عليها ويبذر بذور الخلاف حولها في عقول المواطنين ونفوسهم وغالبيتهم من البسطاء، فإذا ما حدث ذلك لا قدر الله فإنه سيفرغ المشورة من أهم هدف ومعنى لها وسيحول مرادها ومقصدها إلى النقيض، ولهذا كنت أرى أن الحاجة ماسة جداً لضبط المصطلح (المشورة الشعبية)، إذ المعروف أن النزاعات التي ثارت في التاريخ جرت بسبب التنازع حول التفاسير حتى نهض في وجهها علماً قائماً بذاته إسمه ضبط المصطلح.