الأربعاء, يوليو 30, 2025
تقاريرسياسة

السودان في مرآة العالم.. حين تُقاس الكارثة بمقاييس المصالح (2)

تقرير: حسين سعد

لم يعد الدمار مشهدًا عابرًا، في السودان بل صار واقعًا يوميًا، بلدٌ غني بثقافته وتاريخه وأهله الطيبين، يُمزّق اليوم بلا رحمة تحت وطأة حرب كارثية لا ترحم، تنخر في جسد وطن (هشّ)، وتكسر آخر ما تبقى من أمل لدى ملايين المدنيين، دخلت الحرب عامها الثالث ، وملايين السودانيين يعيشون مأساة مركّبة: جوع لا يُشبع، نزوح لا يتوقّف، ووجع لا يُسمع، المستشفيات خرجت عن الخدمة، وبعضها تحولت إلي ثكنات عسكرية، المدارس تحوّلت إلى ملاجئ أو ساحات معارك، والطرقات باتت شِراكًا للموت، الأطفال يموتون جوعًا، المرضى يموتون بصمت، والنساء يُدفنّ بلا صوت، أزمة إنسانية طاحنة تتفاقم كل يوم، وسط صمت عالمي يكاد يكون تواطؤًا أكثر منه حيادًا، لكن، لماذا يصمت العالم؟ وكيف أصبح السودان، بثقله الإقليمي وتاريخه العريق، مسرحًا للحرب ومقبرة للعدالة؟ إن صمت المجتمع الدولي تجاه الكارثة الإنسانية في السودان لا ينبع فقط من الإهمال، بل من ديناميكيات سياسية معقّدة، تكشف توازنات هشة، ومصالح متضاربة، وتاريخًا من التجاهل المتكرر لمعاناة الشعوب الإفريقية، فمنذ إندلاع القتال بين أطراف النزاع في أبريل 2023، إكتفى المجتمع الدولي بإصدار بيانات الشجب والإدانة، دون خطوات عملية لوقف نزيف الدم. المبادرات الخجولة، مثل (محادثات جدة) و(المنامة) وغيرها، لم تثمر سوى عن تهدئات قصيرة، سرعان ما تهاوت تحت نيران الرصاص، ما يثير تساؤلات حقيقية حول غياب الإرادة السياسية الدولية لإنهاء الحرب، لا سيما في ظل ضعف التغطية الإعلامية مقارنة بأزمات أخرى، الولايات المتحدة، التي طالما قدّمت نفسها كمدافع عن حقوق الإنسان، بدت مترددة، منشغلة بإعادة ترتيب مصالحها في المنطقة، وربما غير راغبة في التورّط في (أزمة لا رابح فيها) بل مضت خطوات كارثية حيث أوقفت التمويل علي المنظمات العاملة في السودان ، الامر الذي أدي الي توقفها وتهديد (25) مليون بالمجاعة ، أما الغتحاد الأوربي فقد أبدي قلقاً ، وفرض عقوبات محدودة ، لكنها لم تغيير شيئاً علي الأرض، بينما روسيا والصين تراقبان عن بعد، وكل منهما تحتفظ بعلاقات مع أطراف في النزاع، بينما تواصلان الاستثمار في الرواية السياسية أكثر من الاهتمام بالأرواح، أما الدول العربية، فانقسمت بين وساطات باهتة، ومواقف حذرة، وأجندات داخلية لا تسمح لها بتحمّل عبء السودان، هذا الصمت الدولي لا يحدث في فراغ، بل هو إمتداد لتاريخ من التهميش السياسي، حيث يُترك السودان وشعبه لمصيرهم، كما تُركوا من قبل في دارفور، وكما تُركوا في جبال النوبة، وفي كل مرة، كانت الإنسانية تُهان، ثم تُنسى، لكن السؤال الأصعب: إلى متى؟ إلى متى سيبقى السودانيون يُدفنون تحت الأنقاض ؟، ويُنسَون في التقارير الأممية ؟، ويُهمَشون في طاولات التفاوض؟ ومتى يُعاد للإنسان السوداني إسمه، صوته، وحقه في الحياة الآمنة الكريمة؟

حين تصرخ الملايين ويصمت العالم: السودان بين الجوع والنسيان

وفي الوقت الذي تتسابق فيه الأزمات العالمية على نيل إهتمام المجتمع الدولي، يجد السودان نفسه على هامش أولويات العالم، ما يُنذر بتحوّله إلى (أزمة منسية) وبينما يزداد عدد المحتاجين إلى مساعدات عاجلة، لا تزال الفجوة بين الاحتياجات الإنسانية والتمويل المتاح تتسع يوماً بعد يوم، مما يستوجب استجابة فورية ومنسقة تضع حياة المدنيين فوق الحسابات السياسية، وأضافوا إن إنقاذ السودان من هذه الكارثة المتصاعدة يتطلب تحركًا دوليًا حاسمًا لا يقتصر فقط على الدعم الإنساني، بل يشمل كذلك الضغط من أجل وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين، ودفع الأطراف المتنازعة نحو حل سياسي شامل يعيد الاستقرار للبلاد ويمنح شعبها فرصة للحياة بكرامة، ويزداد القلق من إستمرار هذا الصمت الدولي والتقاعس الإقليمي قد يفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والإنهيار الشامل، ليس فقط في السودان، بل في المنطقة بأكملها، في ظل ما يمثله النزاع من تهديد للاستقرار الإقليمي وتدفقات اللجوء عبر الحدود، إذ تشير التقارير إلى تزايد أعداد اللاجئين إلى دول الجوار، مثل تشاد، وأثيوبيا ، وجنوب السودان، ومصر، وكمبالا ما يفرض ضغوطًا إضافية على أنظمتها الهشة أصلاً، ويهدد بخلق أزمة إنسانية إقليمية ممتدة.

قضية تتطلب تحرك يتجاوز البيانات:

في وقت يعاني فيه الملايين من إنعدام الأمن الغذائي الحاد، وإنهيار الخدمات الصحية والتعليمية، كما يواجه العاملون في الحقل الإنساني تحديات هائلة تتراوح بين إنعدام الأمن، وصعوبة الوصول للمناطق المتأثرة، إلى جانب نقص التمويل الذي يهدد بوقف العمليات الإغاثية بالكامل، هذه الأزمة الإنسانية الكارثية تجعلنا نتسأل : فما الذي يمنع المجتمع الدولي من التعامل مع الأزمة السودانية على قدر فداحتها؟ وما هي الآليات الكفيلة بوضع السودان على خارطة الأولويات العالمية ؟، بعيدًا عن منطق التجاهل أو ردود الفعل المؤقتة؟ وهل بإمكان أدوات الدبلوماسية الإنسانية، وتحالفات منظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام العالمية، أن تُحدث ضغطًا حقيقيًا يغيّر من ملامح الاستجابة الدولية؟ هذا التقرير والتقرير القادم، يسعى إلى تفكيك هذه الأسئلة، وتحليل ديناميكيات التفاعل الدولي مع الأزمة السودانية، من خلال الغوص في جذورها، ؟ وإستعراض مواقف الأطراف الدولية، ورصد أدوار الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية، إضافة إلى تسليط الضوء على المبادرات الشعبية، والنداءات الحقوقية، والحملات الإعلامية التي تسعى لكسر حاجز الصمت وجلب الأنظار إلى ما يحدث في السودان، ليس باعتباره مجرد (أزمة منسية)، بل كجرح مفتوح في ضمير الإنسانية جمعاء، لا يجوز تجاهله، ولا يمكن تركه ينزف دون حراك فعّال وجاد.

أزمة لا تنتظر مزيدًا من التجاهل الدولي:

في السودان، لا يُقاس الوقت بالساعات، بل بعدد الصرخات في الليل، وعدد الأمهات اللواتي ينهضن فجأة مذعورات لأن القصف بات أقرب، هناك، حيث تتوقف الحياة عند أبواب المستشفيات المغلقة، وتُولد الطفولة تحت القصف، لا يتغير شيء سوى أسماء الضحايا، وألوان الأكفان، في قلب الخراب، ثمة صوت طفل يبحث عن والدته في معسكر أو مركز للإيواء لا يعرف له إسمًا، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي يلاحظ نشر صور لاطفال مفقودين وأخرين لا يعرفون مكان أهلهم ، وإمرأة تُرضع طفلها من جسدٍ لم يتناول الطعام منذ أيام ثمة من يموت بصمت، لا لأن الموت مفاجئ، بل لأنه معتاد، هكذا أصبح المشهد في السودان: أنين مستمر، ودمار بلا إنقطاع، وعالم ينظر من بعيد، كما لو أن هذه البلاد لا تنتمي إلى خريطة الإنسانية، فقد أصبحت (المجاعة) كلمة تتردّد كثيرًا، لكنّها هنا وجهٌ حيّ، لا مصطلح في تقارير، يُمكنك أن ترى عيونًا غائرة، وضلوعًا بارزة تحت ملابس بالية، وطفلًا يأكل من الأرض، لا لأن ذلك مشهدًا رمزيًا، بل لأنه واقع يومي ،والتعليم؟ تحوّل إلى حلم ترفيهي، دفاتر الأطفال إحترقت، ومقاعدهم خُلعت لتُستخدم حطبًا، لا أجراس مدارس هنا، بل صفارات المسيرات وهدير المدافع الثقيلة ، وإن وُجد معلم، فهو يعلم الأطفال كيف يختبئون لا كيف يقرؤون، ومع كل هذا، لا تزال عائلات تُصرّ على البقاء، تُمسك بخيوط الحياة المتهالكة، وتقول في كل يوم: لن نغادر، هذا وطننا، أنهم لا يريدون سوي شئ بسيط :أن يعاملوا كأناس ان تري مأساتهم لا كمجرد أزمة إنسانية ، بل كجرح مفتوح في ضمير العالم ، فكم من مأساة نحتاج كي يُرفع صوت الضمير؟ وكم من طفل يجب أن يُدفن، قبل أن تتحرّك الإنسانية من مقعدها البارد في قاعات المؤتمرات؟ إن السودان لا ينزف فقط من الحرب… بل من الصمت، من التجاهل، من اللامبالاة المميتة. (يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *