الأحد, أكتوبر 19, 2025
تقاريرسياسة

من نيروبي إلى دار السلام: رحلة ليلية بين الجبال والوديان نحو المحيط الهندي

كتب: حسين سعد

في رحلة ليلية من العاصمة الكينية نيروبي إلى دار السلام العاصمة التنزانية في الاسبوع الاول من أكتوبر الحالي عبر بصات (كيدية ون) – بين الجبال والوديان والأشجار العملاقة تبدأ الرحلة مع حلول الظلام في نيروبي، حين تتسلل أضواء المدينة التي لا تنام إلى داخل البص الطويل، وتغلف الطريق بوشاح من الغموض والهدوء، مقاعد البص المطرزة بالقماش الأزرق تغوص بالركاب وهم يتابعون عبر شاشة تلفزيون أمام كل ثلاثة مقاعد افلام رومانسية او غناء افريقي ، بينما ينساب الركاب في صمت، ممسكين بكوب من الشاي أو القهوة الكينية الساخنة، يستشعرون بداية رحلة تمتد لساعات طويلة مع كل ميل يقطعه البص، تبدأ المدينة في الانحسار خلف الأفق، ويحل مكانها صمت الليل وهدير المحركات على الطريق المظلم الممتد بين السهول المفتوحة و السلاسل الجبلية المترامية، أضواء البص تتسلل بين الأشجار العالية، فتضيء لحظات قصيرة من أوراقها الضخمة، وكأن الطبيعة تلقي التحية على المسافرين في صمتها العميق. كل منعطف يكشف واديًا جديدًا، وصرير الإطارات على الطريق يشبه نبض الحياة في قلب هذه الأرض الممتدة، عندما يقترب البص من حدود تنزانيا، يصبح الطريق أكثر انحدارًا، والجبال والوديان تتعانق في مشهد يخطف الأنفاس. وكما كتب صديقي الدكتور عباس التجاني في كتابه (سفر الروح حكايات أفريقية) الناشر مركز سلاميديا وبتصميم ولوحة الغلاف للفنان نصر الدين الدومة والتصميم الداخلي انس احمد عمر بينما كتب المقدمة الاستاذ منصور الصويم حكايات افريقية الكتابة بماء النور ونار البراكين.

عبور الحدود بالضوء والقمر:

في الطريق إلى دار السلام، تبدأ حكاية السفر: من نيروبي، المدينة التي لا تنام، حيث تتعانق ضوضاء العربات مع رائحة القهوة الكينية الثقيلة في محطات السفر، والأضواء تتوهج مثل عقد من اللؤلؤ فوق جبين المدينة، يتحرك البص الكبير في صمت مهيب، يشق طريقه نحو الجنوب الشرقي، إلى عاصمة تتنفس البحر والمطر والرطوبة… دار السلام، مدينة السلام والضجيج، داخل البصات السفرية التي تربط نيروبي ودار السلام، تتجاور الحكايات مثل الركاب تمامًا؛ طلاب يحملون دفاترهم وأحلامهم، تجار يسندون رؤوسهم على أكياس القهوة والهيل، وسياح يتهامسون بلغة لا تشبه السواحيلية لكنهم يحاولون فهمها بابتسامات متعثرة. تتسلل نسمات الجبال عند الحدود الكينية – التنزانية، ومعها تتبدل اللهجة وتبدأ الأغاني باللغة السواحلية او الانجليزية بالانسياب من شاشات تلفزيونية مصغرة تملأ البص بالحياة، الطريق طويل، لكنه لا يُمل؛ يمر عبر مزارع الموز الكثيفة، ثم تنفتح الأرض على السهول الواسعة حيث تختلط رائحة المطر بطين الطريق. على الاستراحات القصيرة، يباع الشاي بالحليب في أكواب بلاستيكية، مع خبز “تشاباتي” ساخن يذوب في الفم كقطعة من ذكريات الطفولة، وكذلك يباع البرتقال والموز والبطيخ.

حكاية سفر ومعانقة الليل للطريق:

الأشجار العملاقة تقف شامخة على جانبي الطريق، جذورها تمتد في الأرض وكأنها تحفظ أسرار هذه البلاد منذ قرون أحيانًا، يتسلل ضوء القمر بين الأغصان، فيخلق انعكاسات فضية على الطريق، فتشعر وكأنك تسير في عالم سحري بين الليل والضوء، مع دخول أراضي تنزانيا، يمر البص عبر حقول الشاي المترامية، والمزارع الصغيرة، وقرى متفرقة تنبض بالحياة البسيطة. أصوات الطبيعة تتداخل مع خرير المياه في بعض الأودية الصغيرة، وصفير الطيور الليلية يضيف خلفية موسيقية غريبة لكنها مألوفة. الطريق بين الجبال والوديان يصبح رحلة بصرية وروحية؛ كل منظر يروي حكاية عن قوة الأرض، وعراقتها، وجمالها الذي لم تمسه الحياة العصرية بعد، بعد ساعات من السير المستمر، يصل البص إلى مدينة أروشا، في الساعات الاولي من الصباح حيث تتلاشى الظلال ويبدأ النهار يتسلل تدريجيًا، معلنًا بداية مشهد جديد. من هناك، تمتد الرحلة نحو دار السلام عبر طرق ضيقة متعرجة، تحيط بها التلال الخضراء والأشجار العملاقة التي تقف كحراس صامتين على هذا الطريق التاريخي الممتد بين البلدان.

بين الضوء والظلال:

كل لحظة في هذه الرحلة، بين الليل والنهار، بين الصمت والألوان، تمنح الركاب شعورًا بالانتقال بين عالمين: عالم يعرفه الإنسان، وعالم آخر يسكنه الجمال البري والروحانية الطبيعية، وهكذا، تصبح الرحلة من نيروبي إلى دار السلام أكثر من مجرد انتقال بين مدينتين؛ إنها رحلة حقيقية عبر الزمان والمكان، عبر الجبال والوديان، عبر الأشجار العملاقة التي تحكي قصص الأرض منذ آلاف السنين، تجربة تخلد في الذاكرة قبل أن تصل الأقدام إلى شواطئ المحيط الهندي في دار السلام، من أروشا، يمتد الطريق نحو دار السلام، عبر ممرات ضيقة متعرجة، تتخللها الأشجار العملاقة التي تقف كحراس صامتين على الطريق، وأحيانًا تمر السيارت بجبال شاهقة تمنح الركاب شعورًا بالرهبة والجمال معًا. كل منعطف، كل وادٍ، وكل شجرة تحمل روح المكان، تجعل من الرحلة أكثر من مجرد انتقال بين نقطتين، بل تجربة حسية وروحية؛ رحلة عبر الزمان والمكان، بين الليل والنهار، بين الظلال والضوء، وبين صمت الطبيعة وصخب الحياة في القرى المتناثرة على طول الطريق، وبينما يقترب الركاب من دار السلام، تصبح الأشجار أقل كثافة، وتظهر لمحات من المحيط الهندي بعيدًا، مع أصوات الأمواج الخافتة في الأفق. تنتهي الرحلة البرية الطويلة، لكن تجربة الطريق، تلك التي عبرت الجبال والوديان والأشجار العملاقة، تظل محفورة في الذاكرة، كل صوت، كل ظل، وكل شعور بالرياح الباردة والهواء المالح، جزء لا يتجزأ من القصة الكبرى لهذه الرحلة الفريدة.

الأشجار التي تحرس الطريق:

لحظة وصول البص إلى ضواحي دار السلام، تبدأ المدينة بالكشف عن نفسها تدريجيًا؛ المباني الشاهقة المطلة على جنبات الطريق تتلألأ تحت أشعة الشمس، بينما تتداخل أصوات الأسواق المزدحمة مع خرير الأمواج البعيدة ، تتبدل الملامح: الهواء يصبح أكثر دفئًا، ودرجة الحرارة تشابه درجة حرارة الخرطوم ،والبحر يلوّح في الأفق مثل وعد قديم. تتراصّ الأحياء الشعبية حول الطرق، وتنتشر السيارات الكورية واليابانية والبصات التي تشبه بص الوالي بالخرطوم التي تقف للركاب من خلال محطاب طويلة علي جنابي الطريق أ ما الركشات فهي تسابق مواتر الـ”بودا بودا” النارية، تقفز بين السيارات كأنها سمك يهرب من شبكة زحامٍ لا ينتهي، في قلب المدينة، يبدو كل شيء حيًا بشكل مبالغ فيه؛ الأسواق لا تهدأ، من كارياكو إلى إليالا، حيث تُعرض الملابس المستوردة جنبًا إلى جنب مع القمصان الإفريقية المزخرفة. أصوات الباعة تتعالى، تتدافع الحشود، يتقاطع العطر الهندي مع رائحة السمك الطازج من الميناء، وتتماوج الألوان بين الأقمشة الإفريقية الزاهية وأكوام الفواكه الاستوائية: مانجو، أناناس، وجوافة تفوح منها رائحة الشمس، وإذا خرجت قليلًا نحو البحر، ستجد نفسك أمام مياه المحيط الهندي، حيث يختلط الهدوء بصوت المراكب الخشبية وهي تعود من الصيد، تحمل في جوفها أسرار الأعماق. في المساء، حين تنحني الشمس على صفحة الماء، تغدو دار السلام مثل لوحة رسمها الله على مهل: سماء بنفسجية، ونسيم مالح، وأضواء تتراقص على الموج كأنها حكايات لا تنتهي، دار السلام ليست مجرد مدينة، بل إيقاع بطيء للحياة، حيث يمتزج القديم بالجديد، وتظل الحكايات تسافر في بصات الليل من نيروبي إليها، كأنها خيوط تربط بين روحين لا تنفصلان: الجبل والبحر، الزحام والسكون، البداية والنهاية، حتى عند حلول المساء، تستمر الحياة في دار السلام؛ الأضواء الخافتة للمقاهي والمطاعم المطلة على البحر تضيف رونقًا خاصًا، والموسيقى الحية تعانق الهواء العليل، فيما يستمتع الزوار بعشاء من المأكولات البحرية الطازجة الممزوجة بالتوابل المحلية. النسيم البارد يحمل رائحة البحر والتوابل، لتصبح كل لحظة تجربة حسية متكاملة، تجعل الوصول إلى دار السلام أكثر من مجرد نهاية رحلة طويلة، بل بداية لاكتشاف عالم حي مليء بالجمال والطاقة (يتبع).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *