الإثنين, نوفمبر 24, 2025
مقالات

المحامي عبد الخالق النويري.. صوت المظلومين الذي لا يرحل؟

كتب: حسين سعد

بقلوب يثقلها الأسى، ووجدانٍ ينوء بحمل الفقد، ننعي إلى الشعب السوداني وإلى القوى الديمقراطية وقوي الحرية والعدالة والحق، رحيل الإنسان الذي حمل همّ الناس على كتفيه، المحامي والمناضل والمدافع الصلب عن حقوق الإنسان عبد الخالق النويري، الرجل الذي غادر دنيانا تاركاً وراءه إرثاً من النضال، ومواقف من الشجاعة، وذاكرة مفعمة بالإنسانية التي لم يحد عنها يوماً، رغم قسوة الزمن واضطراب البلاد وتداخل المحن، لقد كان عبد الخالق النويري واحداً من أولئك الذين عبروا الحياة كوميض، لكن أثرهم يبقى ممتداً في ضمير الناس، وفي ذاكرة الأرض التي أحبها وناضل من أجلها، وفي قلوب كل من عرفوه، أو سمعوا صوته وهو يدافع عن مزارع بسيط في الجزيرة، أو أسرة مكلومة، أو معتقلٍ بلا سند، أو وطنٍ ينزف. كان صلباً كالنيل حين يرفض الانكسار، رقيقاً كنسيم الجزيرة وحواشاتها وترعها حين يربت على جراح الناس، ثابتاً كأشجار الحقول التي وقف معها ودافع عن أصحابها.

القانوني الذي صنع من المحاماة موقفاً:
لقد عرفه الجميع بصفته محامياً جسوراً، لكنه كان أكثر من ذلك. كان ضميراً حياً لهذا الشعب، ولساناً لأوجاعه، وقلباً مفتوحاً لقضاياه، وسنداً للمظلومين، وعدواً للباطل حيثما وجد، النويري محامي جعل من المهنة رسالة، حيث لم يكن عبد الخالق من أولئك الذين ينظرون إلى المحاماة كسبل للرزق وحسب، بل جعل منها رسالة حياة. في مكاتبه، في ساحات المحاكم، في المعتقلات، في الشوارع التي شهدت احتجاجات الغضب الشعبي، وفي جلسات الدعم النفسي مع أسر الضحايا… كان حضوره يملك قدرة غريبة على منح الناس الطمأنينة، وعلى بثّ الثقة في قلوب المنهكين. فالمحامي هو صوت الناس عندما يُصادر صوتهم ،وهو ظلهم حين ما تغيب الدولة، وهو سندهم ، بهذا المعنى، كان عبد الخالق محامياً قبل أن يحمل شهادة القانون، ومحامياً بعد أن غادر الدنيا؛ فقد ترك ملفاً مفتوحاً من العدل لم يكتمل بعد.

صرخة العدالة التي لن تنطفئ:
الراحل المحامي عبد الخالق النويري :عرفته الحركة الحقوقية والسياسية بشجاعته في الصفوف الأمامية، ضمن تحالف المحامين الديمقراطيين، وضمن محامو الجبهة الديمقراطية، حيث كان واحداً من أنشط الأصوات في مواجهة انتهاكات السلطة، وكشف التجاوزات، وحماية حق الناس في التنظيم، وحرية الرأي، وحق المعتقلين في محاكمة عادلة، لم يخاف من تهديد، ولم يتراجع أمام ضغوط، بل ظل ثابتاً على مواقفه. كان يقول دائماً: إن لم نقف نحن، فمن يقف؟ وإن سقطنا في منتصف الطريق، من يحمل الراية بعدنا، كان وجوده داخل تحالفات المحامين والمزارعين ، ومحامو الطؤاري: طاقة من الإصرار، كتب المذكرات القانونية، صاغ البيانات، شارك في إعداد الملفات، وقاد مبادرات للدفاع عن الطلاب، المزارعين، الصحفيين، والناشطين. وكان صوته واضحاً في كل اجتماع: هادئاً حين يحتاج الموقف للهدوء، صاخباً حين يستدعي الأمر غضباً مشروعاً..

قلب الجزيرة وضمير العدالة:
جذرٌ من جذور الأرض:
ينتمي عبد الخالق إلى تلك الأرض الطيبة في الجزيرة،أرض المحنة ، ولذلك وجد نفسه منخرطاً بحماس وإخلاص في تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل. لم يكن مجرد محامٍ يقدم المشورة، بل كان يعمل كأحد أبناء المشروع، يحمل ترابه على كتفيه، ويمشي بين حقوله، ويعرف مشكلات المزارعين بأسمائهم، وعندما كنت في الجزيرة بعد أن فقدت عملي الصحفي وتحولت الي مزارع في أكتوبر 2023م وأصبحت مزارع بالقسم الشمالي بمشروع الجزيرة مكتب المعيلق حتي تاريخ خروجي من السودان في مايو 2024م إتصل علي الراحل عبد الخالق النويري يسأل عن حالي والأسرة ، ثم بعث لي بأولي مقالاته التي بلغت نحو عشر مقالات تحت عنوان (مشروع الجزيرة قبل السودان النابض) تناول فيه فكرة المشروع بإعتباره برنامج تنمية متكامل إقتصادية وإجتماعية وثقافية وصحيه وتعلمية كما تناول في تلك المقالات علاقة الانتاج بين المزارعين وادارة المشروع. تحت اشراف مؤسسات فنيه وادارية منها الري والهندسة الزراعية والبحوث الزراعية تديرها الدولة والمزارع والعمال من القمة ادارة المشروع والوزارات الاتحادية الي القاعدة الميدانية الاقسام ثم المكاتب المحلية الميدانيه في الحقل والحواشه بمساعدة مشرف ومتابع من المزارعين (الصمد) ثم وصل في مقالاته الي حركة المزارعين النقابيه والتعاونيه ، ومرور مائة عام علي شيخ المشاريع الزراعية حتي وصل في مقالاته المقرؤة الي التدمير الممنهج من قبل حكومة الإنقاد، لقد دافع النويري عن الأرض كأنها بيته، كتب، تحدث، وواجه من أجل المشروع، باعتباره ليس مجرد مساحة زراعية، بل (ذاكرة وطن) و(قلب السودان الاقتصادي) ورافعة العدالة الاجتماعية التي إن انهارت، انهار معها توازن البلاد، في حديثه معي قبل الحرب الكارثية وبعدها كان يقول لي : إن مشروع الجزيرة ليس مشروعاً اقتصادياً فقط… إنه مشروع حياة، مشروع كرامة، لقد وقف عبد الخالق لقد وقف في وجه محاولات التشليع، وفي وجه السياسات التي أهملت المزارعين، وباعت ممتلكاته في المزاد حديد خردة قبل إن تقضي الحرب علي ما تبقي من شيخ المشاريع الزراعية ، شارك الراحل في إعداد الرؤى البديلة، وكتب مقالاته التي أشرنا لها أعلاه التي تناولت أوضاع المشروع في ظل الحرب، وكيف أن المشروع كان وما يزال يمثل طوق نجاة للسودان كله لو وُضع في موضعه الصحيح، كان عبد الخالق الي جانب مهنته في المحاماة والدفاع عن حقوق الإنسان ، كتب كما قلنا عن قضايا المشروع ،لم يكتب من أجل الظهور، بل كتب لأنه آمن بأن الكلمة نفسها شكل من أشكال المقاومة، كتب عن الحرب وتداعياتها علي المزارعين والمدنيين ، وعلى مشروع الجزيرة والمناقل تحديداً، وعن نزوح الأسر، عن انهيار الخدمات، وعن فساد السلطة وتخاذل العالم، كانت مقالاته بمثابة صرخة، لكنها صرخة واعية، مرتبة، تستند إلى الوقائع، وتخاطب العقل قبل العاطفة، والضمير قبل الأيديولوجيا. لم يجامل فيها أحداً، ولم يتردد في نقد أي طرف يرى أنه ساهم في تعميق أزمة السودان..

آخر حديث معه… ٤ نوفمبر
لا أنسى آخر حديث لي معه، في الرباع من نوفمبر الحالي حيث إتصل علي عبر الواتساب كان يعزيني في رحيل والدتي،بعد مرور يوم واحد علي رحيلها المر،والفاجع بكلمات لا تزال ترنّ في قلبي حتى اللحظة. كان صادقاً، حنوناً، يشبه في تلك المكالمة كل ما عرفته عنه طوال السنوات. رغم تعبه، رغم مشاغله، رغم أعباء الحياة التي كانت تطحنه كما تطحننا جميعاً، وجد وقتاً ليواسيني، قال لي يومها : (الفقد ما ساهل .. لكننا نعيش علي الذكري الطيبة وعلي أثرهم فينا) وقتها لم أكن أعلم أنه، بعد أيام، سيكون هو الفقد الجديد الذي يطرق باب قلبي.

جسارةٌ لا تغيب موقفه من الحرب
في زمن تخلّت فيه بعض الأصوات، وترددت أخرى، ظل عبد الخالق من الذين قالوا الحقيقة. كان موقفه ضد الحرب، وضد الانتهاكات، وضد استغلال المعاناة،وقضايا المفقودين ، ومعاناة النساء والاطفال وكبار السن، رافضاً عسكرة المجتمع، وفضح تجنيد الأطفال، وتحدث عن غياب الدولة، وعن مسؤوليات الجميع، كان يؤمن أن الحرب لن تمنح السودان سوى مزيد من الجراح، وأن الحل يكمن في العدالة، والمحاسبة، وصوت الناس، لا في البندقية. حمل هذا المبدأ حتى آخر يوم في حياته، برحيله اليوم خسرنا وطن ولم تفقده أسرته الصغيرة والكبيرة في منطقة نايل والحصاحيصا وقراها والخرطوم وأمدرمان ، وكذلك لم تفقده مهنة المحاماة التي أحبها بصدق، ونحن لم نفقد محامياً فحسب، بل فقد السودان أحد أنبل أبنائه، حيث فقدته ساحات الدفاع جسارتها، وفقد تحالف المحامين الديمقراطيين أحد أعمدته، وفقد تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل صوتاً كان يجسد وجدان الأرض. فقد الحقل أحد عشّاقه، وفقدت الأسر نصيراً، وفقد الحراك الحقوقي مناضلاً لا يتكرر..

الإنسان الذي سبق صفاته:
كل من عرف عبد الخالق عرف إنساناً شفوقاً، صادقاً، شديد البساطة في حياته اليومية، كبيراً في معانيه، عرفته الأسر التي دافع عنها، عرفه الأطفال الذين ابتسم لهم في جلسات الاستماع، عرفه زملاؤه الذين وجدوا فيه صديقاً لا يتأخر، ولا يتراجع. عرفته أمّهات المعتقلين، كان في داخله ذلك الصدق الذي لا يُمثّل، وتلك الرحمة التي لا تُدرَّس. كان يملك قدرة نادرة على أن يقف بجوار الناس في لحظات انكسارهم، حتى لو كان هو نفسه مثقلاً بالهموم. وكان يعرف كيف يمنح الآخرين أملاً من جملة قصيرة، أو ابتسامة، أو نصيحة، حيث نعته الجبهة الديمقراطية للمحامين السودانيين قائلة: بانه عاش متزن ونبيل زيو وزي أي زميل، لم يمتْ.. بلْ أصبحَ وردةً مُسافرةً تفوحُ في أضلعِ الفقراءِ .. تمنحُهمْ الأملَ الذي لمْ يمتْ، في كلِّ صباح، وتقدمت الجبهة الديمقراطية للمحاميين بخالص التعازي لإبنه مظفر النويري ولأسرته ولزملائه وزميلاته وجموع شعبنا الذي ناضل من أجله ولم يستبق شيئاً، وكذبك نعاه تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل قسم أبوقوتة الذي سرد نضالاته وأعتبره بأنه أحد السيوف التي تحارب الفساد والتعدي على حقوق المشروع كان نعم الرفيق في الملمات سوف تظل خالد فينا يا النويري.
فقد أدّيت رسالتك كاملة:

الى ذلك كتب الصحفي : علاء الدين محمود في صفحته في الفيس بوك :
والله ما وجدناك إلا باسما وديعا مستبشرا، وما كنت إلا كريم النفس خلوقا يا عبد الخالق النويري، ولقد جاء خبرك حزيناً كما هي أيام السودان هذه في ظل الحرب الملعونة، فليتقبل الله روحك الطيبة الراضية وليجعلك في مقام الصدق في جنات وعيون يا أيها الحبيب، ولتتنزل على قبرك فيوض الرحمات والأنوار، من جهته كتب الاستاذ ضياء الدين محمد احمد إن الراحل الأستاذ عبد الخالق النويري، الذي انتقل إلى رحمة الله في يوغندا، بعد مسيرة حياةٍ عاشها ثابتاً على مواقفه، مدافعاً عن الحقوق، ومناضلاً من أجل الإنسان وكرامته، كان الراحل صاحب مبدأٍ لا يساوم، وصوتاً هادئاً لكنه عميق، يقف إلى جانب المظلومين بلا تردد، ويقف في وجه الباطل بلا خوف. حمل هموم الناس في قلبه، واعتبر خدمة المجتمع واجباً لا فضل فيه، وظل حتى آخر أيامه نموذجاً للنقاء الأخلاقي وللمواقف الشجاعة التي لا تبحث عن شهرة ولا مكسب.

رحلة شجاعة من أجل الإنسان والأرض:

وفي المقابل كتب المحامي صلاح المهل :عندما توقف العمل وتناقصت فرصه في شرق النيل طلب مني استاذنا برعي الطيب بالذهاب الي مكتب استاذ /عبد الخالق النويري مشيت ليه وجدت رجلاً قل الزمان أن يجود به كريماً لحد يصعب وصفه هادي محب لعمله وشعبه ووطنه مهموماً بقضايا الوطن والجزيرة والأرض التي نافح وناضل من أجلها واحبها جلست بمكتبه فترة وتعلمت منه الكثير الكثير كان لا يبخل بتجاربه فقدك صعب يالنويري فقدك حار ياعبد الخالق العزاء للمحامين ولناس الجزيرة ، وفي ذات السياق كتب الأستاذ معتصم سيد أحمد: وداعاً الأستاذ عبد الخالق النويري القانوني والمثقف لك الرحمة والمغفرة وصادق التعازي لاسرتك الصغيرة والكبيرة ولكل الرفاق ربنا يصبرنا جميعاً على هذا الفقد العظيم ، كنت صديقاً للجميع كنت من أميز أصدقاء جماعة الجمام المسرحية اذكر في العام 97 دعوت الجماعة لتقديم أعمالها المسرحية بقريتكم الجميلة نايل نزلنا في كرمك وكرم أهلنا بقرية نايل كانت تلك الرحلة من الرحلات الخالدة في وجدان كل أعضاء الجماعة، وبدورها كتبت الإستاذة منال احمد عبد رحيل المحامي النويري فقد جلل لقضايا الحرية والسلام فقد عظيم لتحالف مزارعي الجزيرة والمناقل فقدنا ذاك اليراع الذي لايكل ولا ينضب حبره فقدنا تلك المآقي التي لم تجف من البكاء علي الوطن وعلى نزيفه.

خاتماً: مضي عبد الخالق اليوم إلى حيث يذهب الطيبون، لكنه يترك خلفه بصمة لا تُمحى، تاركاً فيناً درساً عن معني الشجاعة : عندما تقف ، ولو كنت وحيداً، ومخلفاً أرث عن معني الإخلاص :إن تعمل ، حتي لو لم يصفُق لك أحد، وكذلك علمناً من خلال مسيرته الناصعة درساً عن الإنسانية: أن تظل قريباً من الناس، مهما ابتعدت بك الظروف، لذلك نقول إن رحيله ليس نهاية ، بل بداية لواجب علينا أن نحفظ سيرته، أن نواصل ما بدأه، أن نرفع صوته الذي غاب بأصواتنا، أن نتمسك بالأرض التي أحبها، أن ندافع عن الإنسان الذي عاش لأجله، لقد عاش عبد الخالق النويري بسيطاً، مقاتلاً، حنوناً، شجاعاً… ورحل كما يرحل الكبار: فجأة، لكنهم يظلون حاضرين في كل ما خلفوه لنا من أثر، سلامٌ لروحه، نورٌ لطريقه، وعزاءٌ لكل من عرفه أو سمع به أو أحسّ بصدقه، وداعاً يا عبد الخالق : يا سند المظلومين ويا صوت المزارعين، ستبقى حيّاً في ذاكرة الأرض… وفي قلوبنا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *