الحكومة الانتقالية.. أزمات خانقة وإرادة للعبور(5)
بقلم: حسين سعد
تمتلك الحكومة الانتقالية (حكومة الثورة) سنداً جماهيرياً كبيراً ما حدث لحكومة من قبل، وجاء بهذه الحكومة (شعب معلم) بعد خوضه ملحمة بطولية أظهر خلالها (الشفاتة والكنداكات) جسارة وراح بعضهم شهداء بذلوا أرواحهم من أجل الشعب السوداني، ومئات الآلاف من الجرحى والمصابين، نتمنى لهم الشفاء العاجل، وعدد كبير من المفقودين نتمنى لهم عودة ظافرة.
كان الأمل وما يزال في الحكومة الانتقالية لتحقيق إنجاز كبير ينتشل البلاد من أوضاعها المتدهورة على كافة الأصعدة، صحيح أن الحكومة وضعت خطتها للملفات التي أمامها ووضعت مصفوفة لإنجاز تلك الملفات الشائكة والمعقدة، في وقت ظلت تصريحات قيادات الحكومة تعطينا الأمل وهي تعلن مراراً وتكراراً أنها ماضية في طريق الثورة وإصلاح ما دمره النظام البائد، ومكافحة الفساد وإصلاح الاقتصاد، وفي الضفة الأخرى هناك نظرة تشاؤمية لدى البعض بقولهم مر نصف العام ولم يروا تراجعاً في الأسعار، أصحاب هذه الرؤية وبالنظر للواقع تسندها حقائق على الأرض لا يمكن غض البصر عنها حتى وإن كانت تشاؤمية، لكننا نقول لأصحاب هذه الرؤية إننا نرى ضوءاً في آخر النفق وإن النافذة مهما كان حجمها صغيراً لعلها تحوي لنا بادرة أمل.
(شفاتة وكنداكات):
وكما قال الدكتور الباقرالعفيف في خطاب مفتوح لرئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، وضعتك الأقدار موضعاً جعلتك فيه على موعدٍ مع التاريخ. أصبحتَ به معقد آمال الشعب وشبابه الثائر، الذي يطمح في العبور ببلادنا من ربقة التخلف والفقر والقهر إلى براحات التقدم والغنى والحرية. فإما أن تنهض لمعانقة التاريخ، أو تنتظر التاريخ لينحني لملاقاتك. والتاريخ قد ينحني، وقد يتعرَّج في مسيرته أو ينتكس أحياناً، ولكنه لا يرجع القهقرى. فإن انتظرت التاريخ لينحني إليك ربما تعطّلت مسيرة شعبنا لعقود أخرى، لقد أتيتَ رئيساً للوزراء على رأس ثورة من أعظم ثورات العالم. ويسَّر الله لك من القبول والتأييد الشعبي ما لم يُيَسِّره لأحد قبلك في تاريخ السودان الحديث، وما لا أظنه يَتَسنَّى لأحدٍ بعدك في المستقبل المنظور. وبطبيعة الحال فأنت تعلم بأنك ثالث ثلاثة من غمار الناس وصلوا لهذا المنصب. وفي بلادنا لا يصل غمار الناس إلى المناصب العليا إلا نتيجة انقلاب عسكري أو فترة انتقالية تعقب ثورة شعبية، أما أنت وفي هذه اللحظة المفصلية من تاريخنا فمسنود ليس فقط بقوى الحرية والتغيير، بل وأيضاً بإجماع مفجري الثورة الحقيقيين، (الكنداكات) و(الشَّفَّاتة) الذين أذهلت جسارتُهم قوش وصحبَه وهزمتهم معنوياً قبل أن تهزمهم جسدياً. أنت تحظى بإجماع شباب السودان من الجنسين الذين قدموا للعالم ثورة وضعت سوداننا الحبيب في حدقات عيون العالم، وفي سويداء قلبه النابض، لأشهر متوالية.
شعبية كبيرة:
وقال الباقر في رسالته: إن شعبيتك وسط شباب الثورة أكبر بما لا يقاس من شعبية قوى إعلان الحرية والتغيير مجتمعة. وحتى هذه اللحظة لا أدري لماذا لم تنظم هذه القوى استقبالاً شعبيا لك لدى عودتك للبلاد لأداء القسم كرئيس لوزراء الثورة. إذ لا ينتابني الشك بأنهم لو فعلوا ذلك لربما كنتَ حظيتَ باستقبال يفوق الاستقبال الأسطوري الذي حظي به الدكتور جون قرنق عام ٢٠٠٥م، وكنت حينها ستكون رئيس (حكومة الثورة) وليس فقط (رئيس الوزراء الانتقالي)، والفرق بين الصفتين كبير. فحكومة الثورة تتأسس على الشرعية الثورية وهي بذلك مؤهلة لهدم القديم الفاسد ووضع الأسس الصلبة لبناء سودان المستقبل بمخاطبة وحسم جميع قضايا الحكم العالقة منذ الاستقلال. أما الحكومة الانتقالية، فيريدها البعض حكومة ضعيفة مترددة وخائفة رؤيتها مبهمة، ومضي الباقر بقوله إن الفُرصةَ لم تَضِعْ بَعْدُ. وشعبُك ما يزال يتطلع إليك. وهو على أهبة الاستعداد للاستجابة لاستنفارك. وما تفاعله الفوري والتلقائي مع نداء (القومة للسودان) إلا دليلٌ على ذلك. وأكادُ أجزمُ أنك لو خاطبتَ شعبَك في أي وقت من الأوقات طالباً تفويضَه لخرج عن بكرة أبيه ليمنحك تفويضاً يرفعك أمتاراً فوق الجميع، ويُرِي الآخرين أحجامَهم بنفس القدر. لذلك فإنني أدعوك لتحويل هذا الرصيد الشعبي إلى قوة حقيقية تسند إرادتك السياسية لاتخاذ قرارات ثورية تعيد الحيوية للثورة والزخم للشارع، وتعمِّدُك ومن سينهضون معك لمعانقة التاريخ آباء وأمهات مؤسسين ومؤسسات لسودان المستقبل.
أهداف سياسية:
نعود إلى تشريح طبيعة الأزمات التي تواجه الحكومة وأهدافها السياسية الناجمة عن قصور في جانب معين من جوانب العمل، لذلك تتجه الدولة الموازية إلى اثارة ذلك في الرأي العام لتحقيق مكسب سياسي وحتى إذا كان الأمر يتعلق بصحة الناس كل الناس، ولدينا دلائل وشواهد كثيرة في ذلك، وبالتالي تراجعت الإيجابيات مثل الإنتاجية العالية لمحصول القمح أمام النواقص حتى طغت عليها والأمثلة على ذلك متعددة وشاخصة للعيان، وأعادت حملة (القومة للسودان) الالتفاف الشعبي حول الحكومة الانتقالية لذا نعتقد أن المرحلة الحالية تمثل فرصة كبيرة أمام الحكومة لتوظيف التأييد الشعبي وإصلاح نواقص مصفوفة مهام الفترة الانتقالية والالتزام بها، ونرى أن الحكومة لن تنجح في كل مهامها وذلك للأسباب التالية:
(1) الفترة الانتقالية للحكومة قصيرة لا تمكنها من إنجاز ملفاتها مقارنة بحجم التحديات التي تحتاج إلى عشر سنوات على الأقل لأن ما تم من خراب طوال 30 سنة طال كل شئ.
(2) غياب تشكيل المجلس التشريعي: الجانب التشريعي يشكل رافعاً مهماً للجهاز التنفيذي من خلال مايصدره من تشريعات وقوانين. وبحسب المصفوفة سيكون تكوين المجلس التشريعي في مايو القادم وهذا صعب عملياً.
(3) مكونات الحرية والتغيير: سنعود إلى قضية مكونات الحرية والتغيير في حلقة منفصلة.
ذهنية إقصائية:
وكتب الأستاذ أحمد حسين آدم، مقالاً له بعنوان (السودان بين خياري السلام العادل والانهيار الكامل)، جاء فيه: صحيح أن قوى الحرية والتغيير كانت تجمع حركات الكفاح المسلحة والقوى المدنية الأخرى التي شاركت في إسقاط نظام البشير، والتي كان من المفترض أنها تحمل رؤية وبرنامجاً وتطلعات مشتركة، بل كان ينبغي أن ينهضوا بإرادة جماعية لتحقيق السلام الشامل والعادل، لكن وضح جلياً أن بعض القوى السياسية والنخب في المركز ما زالت تسيطر عليها الذهنية الإقصائية ومنهج الانتهازية القديم الذي أفشل دولة ما بعد الاستقلال وحولها إلى دولة إبادة جماعية ضد عدد من الإثنيات والأقوام العريقة في بعض أقاليم السوان الكبري. صحيح أن حكومة الانقاذ سقطت كرمز، ولكنها لم تسقط كذهنية ومنهج واستراتيجية تنهض على الإقصاء والتفرقة، فهذا هو التفسير الحقيقي لأهم عقبات تحقيق السلام الشامل والعادل.
وقال أحمد: لا أريد أن أغوص في رصد المواقف التكتيكية في هذا المجال لأنها ماثلة أمام الجميع، لكني كذلك لا أنحو منحى التعميم في تعرية هذه الظاهرة المدمرة للوطن، فهناك قوى في المركز أثبتت استقامتها الأخلاقية والوطنية غير المتحيزة قولاً وفعلاً. واضح كذلك أن هنالك صراعاً عميقاً بين بعض الدوائر المكونة للسلطة الانتقالية حول ملف السلام، فبعضها يريد تأخير السلام للاستفراد بالحكم، بينما البعض الآخر يسعى للاستقواء بملف السلام لتحقيق أطماع ومكاسب سياسية للاستمرار في السلطة. (يتبع)