الثلاثاء, يونيو 17, 2025
مقالات

ما بين الشعار والقدرة على الفعل

بقلم: محمد عمر شمينا

أشكر صحيفة الميدان على المقال المنشور في عددها بتاريخ الأحد الحادي عشر من مايو، والذي تناول بوضوح معركة الشعب السوداني من أجل انتزاع السلطة من أيدي الجيش والمليشيات. هذا النص ينتمي بصدق إلى تقاليد النضال الديمقراطي الجذري، ويستدعي لحظات مشعة من التاريخ السياسي لشعبنا، من أكتوبر إلى ديسمبر، في سردٍ يتجاوز التوثيق إلى التحريض الثوري. لكن أي خطاب يسعى للتغيير لا بد أن يُختبر أمام مرآة الواقع، لا في لحظة انفعاله العاطفي بل في لحظة وعيه التاريخي. فالمعركة التي نخوضها اليوم لا تقع فقط بين معسكرين، بل في داخل كل فرد، في الصراع بين الأمل واليأس، بين الذاكرة والمستقبل، بين الرغبة في التغيير وإكراهات البقاء. كما أن استدعاء أدوات النضال من الماضي، مثل الإضراب السياسي والعصيان المدني، لا يمكن أن يكون مجرد استحضار رمزي، بل لا بد أن يستند إلى تحليل مادي وواقعي للشروط التي تحكم اللحظة الراهنة. فالحرب لم تترك فقط رمادًا على البيوت، بل تركت فراغًا في بنى الإنتاج، وفي الأطر التنظيمية، وفي الروح العامة للناس الذين أصبحوا مشغولين بالبقاء أكثر من الانتصار. معظم المصانع دُمرت أو أُفرغت من عمّالها، والمزارع تُركت بلا أيادٍ، والمراكز النقابية التي كانت تشكل شبكات تضامن وتحريض في السابق، تحولت إلى أطلال أو ساحة صراع بقاء. في ظل هذا الوضع، فإن الدعوة للإضراب أو العصيان تصبح أكثر من مجرد تكتيك سياسي، إنها رهان فلسفي على أن الإرادة يمكن أن تتجاوز الممكن، لكن كما قال لينين، “لا يمكننا القفز فوق التاريخ، بل علينا أن نحفر طريقنا فيه”. وهنا تكمن المعضلة: كيف نزرع بذور الثورة في أرض محروقة؟

ثم إن توصيف جميع الفاعلين المسلحين والإقليميين بأنهم مجرد أدوات للإمبريالية، رغم عمق هذا الموقف في التحليل البنيوي، قد لا يكفي لتفسير التمايزات الدقيقة داخل هذا المشهد المتداخل. فالصراع في السودان ليس فقط بين الخير والشر، بل بين مشاريع غير مكتملة، ونخب مأزومة، وقوى دولية لا تعبأ إلا بتوازن المصالح. وهنا تحضر مقولة غرامشي: “الأزمة تكمن بالضبط في أن القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر أعراض المرض الأكثر تنوعًا”. إن أخطر ما في هذه اللحظة ليس وضوح العدو، بل ضبابية الصديق، وتفتت الوعي، وانهيار اليقين، وهي كلها قضايا لا تُحل بالخطاب، بل بإعادة بناء العلاقة بين النظرية والممارسة.

الدعوة إلى بناء جبهة جماهيرية قاعدية عريضة لا غبار عليها، بل هي في جوهرها نداء نبيل لإعادة الاعتبار للفعل الشعبي من أسفل، لكنها تواجه خطر أن تتحول إلى مجرد استعارة إن لم تستند إلى ممارسة عملية تتجذر في تفاصيل الحياة اليومية للناس: في صف الرغيف، وفي زحمة المواصلات، وفي صفوف النزوح، وفي آلام الأمهات تحت القصف. الجبهة الحقيقية لا تبنى بالبيانات، بل بالتنفس وسط الجماهير، بتوفير جرعة دواء، أو حصة غذاء، أو ملاذ آمن، أو فكرة منقذة. هذه الجبهة يجب أن تكون، كما أشار ماركس ذات مرة، “القوة المادية التي تولد حين يتحول الوعي إلى فعل”.

في الختام، ما طُرح في صحيفة الميدان يمثل إسهامًا صادقًا في معركة الوعي، لكنه بحاجة إلى اجتهاد إضافي يربط بين الرغبة في التغيير وشروط تحقيقه. فالثورات لا تُنجز فقط بالإرادة، بل أيضًا بالفهم العميق لما هو ممكن، وبالقدرة على تحويل الألم إلى تنظيم، والخسارة إلى وعي، والشتات إلى مشروع. إننا نعيش لحظة رمادية، لكنها، ككل لحظة حاسمة، تتيح لمن يمتلك البصيرة أن يرى أبعد من الضباب، وأن يبدأ من حيث يظن الآخرون أن لا شيء يمكن أن يُبنى. ذلك هو التحدي، وتلك هي المهمة التي لا يقوم بها إلا من قرر أن يعيش، لا في ظل التاريخ، بل في صناعته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *