الخميس, يوليو 31, 2025
مقالات

سد النهضة والمصالح السودانية.. قراءة في مواقف المكون العسكري في السلطة الانتقالية (3)

بقلم: السفير عادل إبراهيم مصطفى

في الحلقة السابقة، تناولنا مواقف الحكومة المدنية الثانية، المعروفة بـ”حكومة المحاصصات الحزبية”، من مفاوضات سد النهضة، وكيف أهدرت فرص حماية المصالح الوطنية عبر ارتهان قرارها للطرف المصري. وفي هذه الحلقة، نسلط الضوء على مواقف المكوّن العسكري في السلطة الانتقالية إزاء قضية سد النهضة، وهي مواقف اتسمت – في مجملها – بانحياز واضح لمصر، وتوظيف القرار السيادي السوداني لخدمة أجندتها، حتى وإن كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية.

ورغم أن هذا الانحياز مؤسف، إلا أنه لا يبدو مستغرَبًا، في ظل النهج المصري الثابت في دعم الحكم العسكري في السودان، والعمل على إحباط تطلعات الشعب السوداني نحو دولة مدنية ديمقراطية. فالقاهرة ترى في سيطرة العسكر على السلطة في السودان امتدادًا لنفوذها الإقليمي، وسدًّا في وجه التحول الديمقراطي الذي تخشاه.

مناورات “نسور النيل”: رسائل عسكرية بمضامين سياسية

من أبرز مظاهر انحياز المكون العسكري للموقف المصري، سلسلة المناورات العسكرية المشتركة التي جرت بين الجيشين السوداني والمصري في توقيت بالغ الحساسية، وطرحت العديد من علامات الاستفهام بشأن أهدافها الفعلية.

ففي نوفمبر 2020، أُجريت مناورات جوية مشتركة في قاعدة مروي الجوية تحت اسم “نسور النيل 1″، ثم تكررت في 31 مارس 2021 تحت اسم “نسور النيل 2″، وتلتها مناورات برية غرب أم درمان في مايو من العام ذاته. ورغم أن التصريحات الرسمية تحدثت عن “تعزيز الأمن المشترك”، إلا أن توقيت هذه الأنشطة العسكرية تزامن مع تعثر مفاوضات سد النهضة وتصاعد التوتر مع إثيوبيا، ما أكسبها دلالات سياسية تتجاوز الأغراض التدريبية المعتادة.

كما أن اختيار اسم “نسور النيل” لم يكن اعتباطيًا، بل بدا كرسالة رمزية موجهة إلى إثيوبيا، بأن مصر قادرة – عبر قاعدة مروي القريبة نسبيًا من سد النهضة – على التحرك العسكري إن اقتضت الضرورة، وبأن الجيشين المصري والسوداني قد يشكلان جبهة موحدة للدفاع عن “مصالحهما”، التي كانت – في واقع الأمر – مصالح القاهرة أولاً.

وفي خضم هذه المناورات، أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تهديدًا مباشرًا من قناة السويس يوم 30 مارس 2021، قائلاً:

“المساس بحصة مصر من المياه خط أحمر، وسيكون له رد فعل يُزعزع استقرار المنطقة”، مضيفًا باللهجة المصرية:
“ما حدش يقدر ياخد من مصر نقطة ميّه وحده… واللي عايز يجرّب يقرّب”.

أثر هذه السياسات على موقف السودان

أسهمت هذه التحركات العسكرية والسياسية في توتير العلاقات مع إثيوبيا، وإغلاق الباب أمام أي محاولات للتعاون الثنائي في ما يخص ملء بحيرة السد. وكان السودان – بحكم موقعه الجغرافي – في أمسّ الحاجة إلى هذا التعاون الفني، خاصة لحماية خزان الروصيرص من الآثار السلبية للملء الأحادي.

والمفارقة المؤلمة أن الجيش السوداني – الذي يُفترض به حماية السيادة الوطنية – يشارك في مناورات عسكرية مع جيش يحتل أجزاءً من التراب السوداني (مثل حلايب وشلاتين وأبورماد)، بينما يصعّد التوتر مع دولة أخرى (إثيوبيا) حول منطقة الفشقة، دون استنفاد قنوات التفاوض. والأدهى من ذلك أن هذه التحركات تتم دون علم أو موافقة السلطة التنفيذية، في تجاوز صارخ لمبدأ الفصل بين السلطات، وفي تعبير سافر عن اختلال هيكلي داخل مؤسسات الحكم الانتقالي.

كل هذا يعكس حقيقة مزعجة، وهي أن المؤسسة العسكرية، بعد عقود من التغلغل في الحكم، باتت ترى نفسها كيانًا موازياً للدولة، وليس مجرد أحد أجهزتها.

نحو موقف متوازن وعقلاني

في نهاية المطاف، لا يمكن إنكار أن سد النهضة أصبح أمرًا واقعًا، ولا سبيل للتعامل معه إلا من خلال الحوار العقلاني، بعيدًا عن منطق الاستقطاب والابتزاز السياسي. وقد ثبت بالتجربة أن التهديدات ورفع سقف الخطوط الحمراء لا يفضي إلا إلى تعميق الأزمة واتساع الفجوة بين الأطراف.

ويتعين على السودان – باعتباره الطرف الأقرب جغرافيًا للسد – أن يتحلى بأكبر قدر من الحكمة والبراغماتية، وأن يحرص على إنتهاج سياسة متوازنة بين مصر وإثيوبيا، بما يضمن مصالحه الوطنية، ويسهم في التوصل إلى إتفاق ثلاثي أو حتى ثنائي عادل وملزم بشأن ملء وتشغيل السد.

في الحلقة القادمة:

نستعرض تطورات النزاع الحدودي في منطقة الفشقة بين السودان وإثيوبيا، وتأثيراته على العلاقات الثنائية، وعلى فرص التقدم في ملف سد النهضة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *