الأربعاء, يوليو 9, 2025
مقالات

بين الثورة والحرب والمسجل ضاعت النقابة

بقلم: محمد عمر شمينا

في التاسع والعشرين من يونيو 2025، أصدر مسجل عام تنظيمات العمل القرار رقم (9) لسنة 2025، استنادًا إلى المادة (14/2.1) من قانون نقابات العمال لسنة 2010، حيث تقرر إنهاء الدورة الانتخابية لجميع المكاتب التنفيذية للتنظيمات النقابية، وتحويلها إلى لجان تمهيدية بموجب شهادة تصدر عن المسجل العام، إلى حين الإعلان عن بداية إجراءات انتخابية جديدة. القرار جاء بعد دورة بدأت في 2016 وانتهت فعليًا في 2021 دون تجديد شرعي. وقد تركت الدولة النقابات طيلة تلك الفترة في فراغ تنظيمي، دون تدخل فعلي، إلى أن صدر هذا القرار الذي يُقر فعليًا بالجمود القائم لكنه لا يُعالج جذوره.

لكن هذا القرار لا يمكن قراءته منعزلًا عن السياق السياسي والانتقالي الذي تمر به البلاد. فبعد ثورة ديسمبر 2019، تم حلّ كافة النقابات والاتحادات المهنية بقرارات من لجنة إزالة التمكين، باعتبار أن هذه الكيانات كانت أذرعًا حزبية للنظام السابق. وتم تشكيل لجان تسييرية (مؤقتة) لتدير الشأن النقابي مؤقتًا، على أن تُجرى انتخابات لاحقًا. لكن التجربة كشفت عن أن هذه اللجان، في كثير من الحالات، لم تلتزم بطبيعتها المؤقتة، وتحولت إلى أجسام دائمة دون تفويض، وظل بعضها يُمدد له بقرارات سيادية، ما جعلها خارج الرقابة القاعدية، وفاقدة لأي شرعية ديمقراطية.

ومن الأسباب الجوهرية التي ساهمت في تأخير بناء النقابات بعد الثورة، أن كثيرًا من الطاقات التي كان يُفترض أن تُكرّس لتمكين القواعد من أدواتهم النقابية، تمّ سحبها نحو العمل السياسي المباشر، وعلى رأسها طاقات تجمع المهنيين السودانيين. فبدلًا من أن يتحول التجمع إلى مظلة تأسيسية تدعم بناء النقابات المستقلة، دخل في صراعات سياسية داخلية، وتنافس على تمثيل الثورة، مما أهدر فرصة تاريخية لصياغة مشهد نقابي جديد. هذا الانشغال بالصراعات والانقسامات، إلى جانب غياب رؤية واضحة لتفكيك النقابات القديمة وبناء بدائل شرعية، ساهم في تعميق حالة الجمود التي استمرت حتى ما بعد اندلاع الحرب.

تجددت هذه الأزمة بتأثير الحرب التي اندلعت في أبريل 2023، والتي دمرت أجزاء واسعة من الدولة والمجتمع، بما في ذلك النقابات. النزوح الجماعي، وتدمير المقار، وانقطاع التواصل بين الهياكل والعضوية، كل ذلك جعل من العمل النقابي مهمة شبه مستحيلة. في هذا السياق، كان يفترض أن تبادر السلطة لإعادة الشرعية عبر فتح المسار الانتخابي، لا عبر إعادة إنتاج الأزمة تحت مسمى (لجان تمهيدية).

القرار، كما هو الآن، لا يقدم خارطة طريق واضحة، ولا يتضمن جدولاً زمنيًا لإجراء الانتخابات، بل يمنح المسجل العام سلطة شبه مطلقة في إعادة تشكيل النقابات، وتوجيهها عبر موجهات غير مُحددة. وهذا يفتح الباب أمام تغوّل السلطة التنفيذية على العمل النقابي، ويجعل من هذه اللجان التمهيدية أدوات خاضعة، لا ممثلة. وهو ما يتعارض مع مبدأ استقلال التنظيم النقابي المنصوص عليه في الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها السودان، ومنها اتفاقية الحرية النقابية (رقم 87) لمنظمة العمل الدولية.

قانونيًا، يمكن الطعن في القرار أمام المحكمة العليا (الدائرة الإدارية) باعتباره قرارًا إداريًا صادرًا من موظف عام، ويمس حقوقًا قانونية أو مصالح مشروعة. حجة الطعن يمكن أن تستند إلى تجاوز السلطة، إذ أن المسجل العام ليس من صلاحياته إصدار قرارات تؤسس هياكل جديدة دون مسوغ قانوني صريح، كما أن تحويل النقابات إلى لجان دون الرجوع للجمعيات العمومية يمثل افتئاتًا على حق الأعضاء في التنظيم الحر. كذلك يمكن الدفع بأن القرار يُخالف (مبدأ التدرج والملاءمة)، إذ لم يسبقه إخطار، أو إجراءات تشاورية، أو إعلان عن جدول انتخابي.

ومن الزاوية الدستورية، يمكن الدفع بأن القرار يُقيّد الحق في التنظيم المهني، وهو من الحقوق الأساسية المكفولة بموجب الوثيقة الدستورية والمواثيق الدولية. هذا يجعل من القرار محل مساءلة مزدوجة إدارية ودستورية. كما يمكن الطعن فيه باعتباره يكرّس التمييز ويضر بمبدأ المساواة، إذا ما تبين أن بعض اللجان يتم تعيينها بانتقائية دون سند من القواعد.

من الناحية الإجرائية، يحق لأي عضو متضرر أو أي تنظيم مهني ذي مصلحة، رفع دعوى طعن إداري أمام المحكمة المختصة خلال 30 يومًا من تاريخ العلم بالقرار، استنادًا إلى قانون الإجراءات المدنية وقانون القضاء الإداري، مع المطالبة بإلغاء القرار، واعتباره غير مشروع، مع إلزام الجهة الإدارية بوضع جدول زمني عاجل للانتخابات.
الأمر لا يتعلق فقط بخرق الإجراءات، بل بجوهر العلاقة بين الدولة والنقابات. فالنقابات ليست وحدات تابعة للدولة، بل كيانات مستقلة تنبع شرعيتها من قاعدتها، وأي تنظيم يفرض من فوق يُعتبر باطلًا أخلاقيًا، وسياسيًا، وقانونيًا.

ورغم هذه الإشكاليات، يمكن النظر للقرار بوصفه تنبيهًا ضروريًا لحجم الأزمة. هناك فرصة حقيقية لأن تكون هذه اللحظة بداية لإعادة تأسيس العمل النقابي في السودان، بشرط أن تتسع المشاركة القاعدية، وأن يُعاد بناء النقابات وفق مبادئ الاستقلال، والمشروعية، والانتخاب الحر. لن يُكتب لأي نقابة البقاء إذا لم تكن ممثلة فعليًا لقواعدها.
ولا يجب فصل مسألة استقلال النقابات عن قضايا العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار، فالنقابات القوية والمستقلة ستلعب دورًا محوريًا في مراقبة الأداء التنفيذي، وضمان عدالة توزيع الموارد، وصوتًا للمجتمعات المهنية التي انهارت بسبب الحرب. النقابات ليست فقط صوتًا مطلبيًا، بل آلية من آليات المراقبة الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.

الكرة الآن في ملعب القواعد. فالطعن في القرار يجب ألا يكون فقط في المحاكم، بل في الوعي العام، وفي الصحف، وفي الأجسام المهنية التي عليها أن تستعيد دورها، وتضغط من أجل انتخابات نزيهة، تضع حدًا للتجميد والتعيين. إعادة النقابات من حالة التجميد إلى حالة الحياة تبدأ من الداخل، من القواعد، لا من المسجل ولا من الدولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *