الأستاذ المناضل التجاني الطيب يا من علمتنا ثباتك الأصيل
بقلم: حسين سعد
أعترف أنني لن أتمكن من أحاطه الشهادة كاملة في حق مناضل ومصادم بذل حياته كلها من أجل الغبش والكادحين كان (رجلا بقامه وطن).
العجز من إستكمال الشهادة التاريخية من كل جوانبها ليس بسبب ضيق الوقت او لمشاغل وانما لعدم مقدرتي من اعطاء قائداً ولد وعاش (بطلاً جسوراً) قدم تضحيات كبيرة لشعبه وللعمال ولسكان الكنابي والقري المنسية ،نعم أقول ان شهادتي ناقصه لان الاستاذ التجاني (يتوسد) تاريخ حافل بالنضال والجسارة. وتجسد عدد من المقالات مواقف الرجل البطولية، ونشير هنا الي مقال الدكتور حيدر ابراهيم بعنوان التيجاني الطيب: مسؤول شيوعي وشيوعي قال فيه إن(التيجاني )لم يعرف الكذب مهما كان لونه.ولم يسعي لامتلاك المال،لأنه يدرك أن المال هو الذي يملك المرء حين يحفظه ويحرسه،ويلهث خلفه.وهو مع زواجه الاسري،تزوج الشيوعية زواجا كاثوليكيا بلا فكاك،ولم يترك الحزب في قلبه مكانا لغرام أوعشق أخر. وقد كان حسن الحظ،إذ لم يكن له ملف أو فائل في أي مؤسسة حكومية أو خاصة للعلاوات والترقيات عدا ملف الأجهزة الأمنية.تبدو هذه الشخصية أقرب الي المعجزة أو الملائكة،(انتهي)
أما نحن الاجيال الحديثة في بلاط صاحبة الجلالة فقد عرفنا (التجاني الطيب) مثقفاً ومناضلاً، وعرفته مدن الخرطوم وشندي ودنقلا والابيض وودمدني وعطبرة والجزيرة ووادي حلفا والقاهرة وموسكو ، مقاوماً وقائداً وطنياً غيوراً ومثقفاً قومياً،هكذا هي الحياة سجل نسطر على صفحاته آمالنا وآلامنا، ذكرياتنا الجميلة والحلوة والمرة، هكذا هي الحياة سجل نحذف منه أسماء أحبائناواصدقائنا الراحلين ونضيف له أسماء جديدة، ولكن ليست كل الأسماء تحذف. فمنها من يكتب بقلم الرصاص فيهفت لونه بتقادم السنين، ومنها من يكتب بالدم لايزول من ذاكرة التأريخ ولا من سجل النضال. ومنها من ينحت في الصخرة أسماء لامعة أشبه بكواكب تتلألأ في السماء، قد تكون بعيدة عن ناظرنا ولكن منظرها يسعدنا ووهجها يصلنا ودفئها يحمينا.(التجاني الطيب) أحد هذه الاسماء المكتوبة علي القلوب والجدران ، لانه صاحب محطات نضالية ذات جزور عميقة ، فقد شارك الراحل في مظاهرات 1946م الى ان اغلقت الجامعة، وحينما طلب من قادة المظاهرات وغيرهم من الطلبة التعهد بعدم المشاركة في العمل السياسي، رفض نحو ستين طالبا من هؤلاء الطلبة التوقيع حيث كان الاستاذ التجاني الطيب واحدا منهم، ومن ثم ذهب الى مصر.
وقال التجاني في حديثه في نادي القصه السوداني في سبتمبر2010 ضمن سلسلة شاهد على العصر في مصر حدثت لنا تطورات، فمنا من أصبح شيوعيا او معلما. وبالنسبة لي فقد عملت في التعليم مدة بسيطة، ولكن الإدارة البريطانية رأت انني لا ينبغي ان أكون في السلك التعليمي، ورفضت أن تمنحني رخصة معلم، ولم أجد وظيفة في أي مكان آخر، فانخرطت في سلك التفرغ للعمل الشيوعي منذ عام 1951م حيث تأسس الحزب باسم الحركة السودانية للتحرر الوطني في اغسطس 1946م، حيث كان عبارة عن حلقات بعضها في مصر وبعضها في السودان من خريجي المدارس الثانوية ووادي سيدنا وحنتوب، وقد كان ذلك نتيجة لجهد قام به بعض معلمي المدارس الثانوية وبعض الموظفين الشيوعيين من الانجليز الذين اتصلوا بأحمد زين العابدين «رحمة الله عليه» وآخرون، بدأوا حلقات ماركسية عام 1946م، وبعد ذلك تطورت هذه الحلقات لتلعب دورا أكبر، وتكون عام 1946م الحزب من عدد قليل لا يتجاوز العشرة اشخاص لكنهم كانوا مخلصين. وفي عام 1951م نظم اول مؤتمر للحزب الشيوعي السوداني، وكون اول لجنة مركزية منتخبة. وفي عام 1952م عقد المؤتمر الثاني، وفي عام 6591 الثالث، وفي عام 1968م الرابع، ثم بعد اربعين سنة عقد المؤتمر الخامس.
ظل التجاني مشاركا في كل فعاليات الحزب، ومؤتمراته، وبرامجه السياسية،وكان رافضاً بشكل قاطع للانقلابات العسكرية واعتبرانقلاب عبود بانه كان أكبر ضربة وجهت للديمقراطية، وانه –أي إنقلاب عبود-جرد الناس من حرياتهم وحقوقهم، وان ضرره على الاقتصاد السوداني مازال موجودا.
أما أرتباط التجاني بالعمل الصحفي بالصحافة السودانية، فقد كانت بدايته في جريدة المؤتمر في الفترة ما بين 48 – 49م، وبعد ذلك كتب في جريدة «الصراحة» ومن ثم عمل في صحيفة «الميدان» التي صدرت في سبتمبر 1954م، وتوقفت في انقلاب عبود وعادت عقب الانتفاضة في 1985م، ثم في 2005م عقب اتفاقية السلام الشامل ،وظل التجاني الطيب رئيسا لتحرير الميدان منذ العام 1985م وحتي رحيله.
واليوم ونحن نتحدث عن أحد أعمدة العمل الصحفي منذ فجر باكر وحتي رحيله الفاجع(التجاني الطيب) نجد ان الصحافة السودانية عاشت على امتداد مسيرتها الحافلة ظروفًا قاسية ، لعدم الاستقرار السياسي منذ فجر الاستقلال حتى في ظل الحكم الديمقراطي الذي يجيء متقطعًا، بينما كان دور الصحافة في فترات الحكم العسكري هو تجميل وجه نظام الحكم, وترسيخ دعائمه،
وفي ظل حكم الانقاذ تعرضت الحريات الصحفية في السودان لانتهاكات واسعة ضد الصحفيين وإجراءات قمعية من قبل الأجهزة الحكومية في مواجهة بعض الصحف، ،إضافة إلى عقبات أخرى تتعلق بإقتصاديات صناعة الصحافة والتي تعتبر في رأي عديد من الخبراء بانها تشكل مخاطر حقيقية على هذه المهنة السامية، وتضع الصحافة السودانية في “مهب الريح”.(ورقة الحريات الصحفية خالد سعد)
وبنظرة خاطفة لواقع الحريات خلال المرحلة الماضية نجد انه في الثامن من يوليو الماضي عطل مجلس الصحافة والمطبوعات صدور ستة صحف منها خمسة صحف انجليزية بجانب صحيفة أجراس الحريةالتي الحقها ذات المجلس بخطاب أخر القي بموجبه ترخيص الصحيفة اي _بعد مرور نحو ثلاثة أسابيع من قرارالمجلس الاول ،وقبل ذلك صادرت السلطات صحيفة رأي الشعب ثم إغلاقها بقرار قضائي بعد إدانة ثلاثة من صحفييها ثم اغلاق ذات الصحيفة في يناير الماضي وفي الشهر الماضي صادرجهاز الأمن نحو ثلاث اعداد من صحيفة الميدان بعد طباعتها حتي بلغت الأعداد التي صادرها جهاز الأمن من ذات الصحيفة خلال العام الماضي أحد عشر عدداً . ومصادرة صحف (الأحداث) و(اليوم التالي)في فبرايرالماضي وأغلاق صحف (الجريدة)و(التيار)و(ألوان)مطلع العام الحالي ومن ثم السماح لهما بمعاودة الصدور، ان الصحف التي تمت مصادرتها واغلاقها غالبا ما تنشر صفحاتها مواداً إعلامية تفضح وتوثق لإنتهاكات حقوق الإنسان التى يرتكبها جهاز الأمن أو تنشر أخبار وتقارير صحفيّة عن الفساد.
الهجوم الانقاذي على الصحافة السودانية، ياخذ عدداً من الأشكال منها مصادرة الصحف ومنع الصحفين من الكتابة وفرض الرقابة القبلية ومطالبة الصحفيين بعدم نشر اخبارأومقالات في ملفات محددة.بجانب البلاغات الكيدية التي يتم تدوينها في مواجهه الصحف والصحفيين وإلزام المحررين والمحررات بملء إستمارات أمنية خاصة بالسكن والبيانات الشخصية التفصيلية.
هذه العراقيل والقيود الهدف منها هو التاثير علي السياسية التحريرية للصحف المنحازة إلي قضايا الشعب والوطن والملتزمة بشرف المهنه.
تكرار هذه الانتهاكات من قبل النظام الذي فشل سياسيا واقتصاديا ودوليا لذلك اتجه لتكميم الافواه ومصادرة حرية التعبير يهدد سيادة حكم القانوني ويقوِّض الممارسة الديمقراطية ويجهض الحريات المنصوص عليها والمكفولة قانونيا ودستورياً حتي في الدستور الانتقالي الذي كتبه النظام بيده،
القمع الامني والانتهاكات التي يعيشها المجتمع الصحفي لم تقف عند النظام ومؤسساته المختلفة بل هناك إتحاد الصحفيين الذي أكد شروعه في أساليب قمعيّة ، لجهة محاصرة ومضايقة الصحافة والصحفييين، وهي تشكيل (لجنة مساءلة ومحاسبة الصحفيين) وتفعيلها كآليّة لتكريس قمع الصحفيين.
هذه الانتهاكات الخطيرة مقلقة على مستقبل حرية التعبير في البلاد ومناخ الحريات الامر الذي يتطلب من الوسط الصحفي المزيد من تلاحم الصفوف.
تراجع الحريات بشكل عام في السودان خير شاهد عليه بجانب ما أشرنا له هو إحتل السودان للمرتبة (171) من ضمن 179دولة ،وفقا للتقرير السنوي لسجل الحريات الصحفية في العالم الذي أصدرته منظمة “صحفيون بلا حدود” في تقريرها السنوي عن الحريات الصحفية في العالم، بينما جاءت دولة جنوب السودان الحديثه في المرتبة (111)
المواقف المبدئية (للمناضل التجاني الطيب ) كانت سابقة في الحديث عن سجايا مناضل ثابت الخطى ما (لان )أمام الصعاب ولا( وهن) في الأقدام على مواجهة الطغاة والشمولية وسارقي قوت الشعب.
فقد كانت للتجاني وقفات تتوافق مع تأريخة النضالي.حتي غادر الحياة التي أشعل حراكها السياسي والنضالي والصحافي والثوري بكل هدوء وسكينة باذلا تضحيات عظيمة.
وفي لقاء خاطف مع التيجاني بمكتبه بالميدان في الربع الأخيرمن العام 2008ظلت عالقة بذاكرتي، وكان ملهما لي،المناسبة كانت تكليف لشبكة الصحفين لعدد من الصحفيين ضم الزملاء (ايمان عثمان ،عارف الصاوي ،عمارعوض ،حسين سعد) لمقابلة الرموز الصحفية وتمليكهم خطط الشبكة الخاصة برفع الرقابة عن الصحف وهموم وقضايا الوسط الصحفي ،والتزود بنصائح (أساتذتنا) أستقبلنا الاستاذ التجاني بترحاب كبير ثم طلب لنا أكواب من الشاي المظبوط بالنعنان،واثناء المقدمه التي طرحها وفدنا فيما يخص قضية الرقابة التي توجت بعمل ضخم كانت نتيجته أعتقال نحو 67صحافيا وصحفية من أمام المجلس الوطني وأحتجاب عدد من الصحف في اليوم التالي أستجابة لمناشدة ونداء شبكة الصحفيين التي ولدت عملاقة، ولازالت خطواتها تمضي واثقة الخطي ،اثناء الحديث كان المناضل التجاني الطيب يستمع بقدرة فائقة علي الاستماع للمتحديث المتحمسين وعدم مقاطعتهم ،وعندما جاء دوره في الحديث تكلم بهدوء وثقة متناهية وكانت كلماته قوية مثل الرصاص ولايجامل في حريةالتعبير. وقال الاستاذ التجاني في تلك المقابلة ان تضييق الخناق على حرية التعبير مرتبط بتآكل الشرعية السياسية للنظام الحاكم، وشددعلى ضرورة الغاء الرقابة على الصحف ، وحرية الوصول للمعلومات، وحرية التنظيم الصحافي والمهني لاهل المهنة، وردد(ان أستمرار هذه الممارسات القمعية يدل علي تعنت السلطة ومعاداتها للصحافة)
(التجاني ) رمزا من رموزنا الصحافية والسياسية الذين واجهوا الديكتاتوريات العسكرية والشمولية بشجاعة متناهية، لم تهزهم السجون والمعتقلات ولم تبهرهم السلطة حتى في فترات الديمقراطية الشحيحة التي مرت على السودان وكانوا زهادا يعيشون على الكفاف غير انهم أثرياء بحب الناس واحترامهم (التجاني )ذلك الرجل النبيل الذي حمل روحه على يده ومضى يطوي عقود السنين مانحا أياها بلا مساومة . ظل التجاني ثائراً ، يقاوم ويسجن ويبقى وفيا للنضال وساحاته حتى الرمق الاخير؟ كان رمحا من رماح بلادنا موجها ضد الطغاة والوصوليين والانتهازيين والعسكر ، وهومثل (عود صندل) ينثر عطره وفكره في أرجاء السودان.
التجاني كان أحد الشرفاء من الاعمدة الصحفية الذين وضعوا اللبنة الاولي لاعلان تشكيل شبكة الصحفيين السودانين التي صارت مثل دار ابو سفيان تمنح الامان للصحفيين وتدافع عن حقوقهم وأوضاهم التجاني ظل مشيحا بوجهه عن كل منصب، بعيدا عن حسابات كم يجب أن يُدفع له من ثمن لقاء موقف، لانه كان يؤمن بأن بيع النضال جريمة كبرى، وأن التاريخ لايُكتب بالهرولة خلف مناصب السلطة والاستوزارفي الحكومة العريضة او حكومة البرنامج الوطني، وغيرها بل بالمقاومة.
(التجاني )عاش مناضلا وهو يحتضن راية النضال دون أن يهدأ له (خاطراو بال) أو يتردد في أقتحام المصاعب والتحديات أنتصارا لأهل الهامش والعمال والمقهورين ولمهنة الصحافة رحل (التجاني) وبقي عطره النضالي عبقا
ختاما أستاذنا العظيم سلاما عليك (عمي التجاني )من قري وكنابي السودان وأريافه وجباله ومعسكرات نازحيه في دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق ،وورش عماله وحواشات المزارعين ومواني العتالة ومواقف الشاحنات والبصات… سلام عليك من رجال ونساء وشباب وأطفال بلادي .
اليوم أفتقدناك ونحن في أشد الحاجة اليك وكذلك بلادنا المثخنة بالجراح والغلابة والمحرومين والعمال والعتالة يفتقدون اليوم (سدا منيعا) كما تفتقدك الصحافةالسودانية التي كبلتها الحكومة بحبال من (مسد)افتقدتك (الميدان) ميدان الكرامه والحرية والعمال والمزارعين التي كنت فيها (فارسا) صعب النزال في معارك الدفاع عن حرية الصحافة والتعبير ،وسجل رحيلك فراقا كبيرا في حزبك وفي الصحافة السودانية لكنها مشيئة الله ولكل أجلٍ كتاب فالأشجار دائما تموت واقفة، وكذلك المناضلين والعظماء بإبداعهم وعطاءاتهم الشهداء(عبد الخالق محجوب والشفيع احمد الشيخ وهاشم العطا ومحمد ابراهيم نقد وحميد ووردي ومحمود محمد طه وجون قرنق ومحجوب عثمان ومصطفي سيد احمد) وخلدتَ كلماتك القوية في الميدان التي تراست قيادة تحريرها سنينا عددا وهي تنحاز لهموم المحرومين والمهمشين ،وهي تقول لك في عنوانها الرئيسي عقب رحيلك الداوي (وداعاً المناضل الاستاذ التجاني الطيب).
أيها الفارس النبيل(نم)مطمئنا فقد خلفت ورائك جحافل من المؤمنين والمدافعين عن قضيتك المصيريةمن رفاق وتلاميذ وهم أهل لإكمال المسيرة التي غرست بذورها من اجل وطن يسع الجميع.
أيها القائد نقول لك وبالصوت العالي سنظل ندافع عن حرية التعبير والصحافة ونؤكد لك بان الإرادةٍ التي تسلحنا بها منكم لا تعرف سوى الإصرار والعزيمة القوية من أجل صحافة حرة أو لاصحافة.
هذا المقال نشر في صحيفة سودانايل الإليكترونية في العام 2012م