الإثنين, أغسطس 18, 2025
تقاريرسياسة

الخرطوم بين جركانة الماء وأمل النجاة.. مدينة على ضفاف النيل يموت سكانها عطشاً

تقرير: حسين سعد

في قلب القارة السمراء، وعلى ضفاف نهرين عظيمين شكّلا شريان الحياة لآلاف السنين، ترقد الخرطوم، عاصمة السودان، مدينة الشمس والغبار والماء، أو بالأحرى، مدينة العطش المتجدد رغم وفرة الماء… هنا، تتقاطع المفارقات، بحدة تؤلم القلب قبل أن تثير الأسئلة، كيف لمدينة يلتقي فيها النيل الأزرق بالنيل الأبيض، أن تعاني من العطش؟.. كيف لمنزل يُطلّ على النهر أن يخلو من المياه الصالحة للشرب؟ .. كيف أصبح الحصول على كوب ماء بارد ونظيف، رفاهية لا تنالها إلا قلة محظوظة؟

ليست أزمة مياه الشرب في الخرطوم بسبب الحرب الحالية أو بمجرّد خلل في الأنابيب أو انقطاع في الخدمة، بل هي أزمة حياة، تتسلل كل صباح إلى تفاصيل يومية مرهقة، وتشكل عبئاً ثقيلاً على سكان المدينة الذين باتوا يقيسون يومهم بكمية المياه المتاحة، لا بالساعات أو الإنجازات، من أحياء الكلاكلة وجبرة إلى الحاج يوسف والصافية، تتوحد الشكوى: صهاريج خاوية، حنفيات جافة، وصوت مضخة الماء أصبح أغلى من أغنية، ِِِِِِِ، لا ينبغي لمدينة تحيطها الأنهار من كل جانب أن تعيش عطشاً مزمناً، وبينما تنتظر العاصمة الحلول السياسية والمالية، يواصل سكانها مقاومة العطش، مدفوعين بالإيمان بأن الماء ليس ترفاً بل حياة.

وخلال فترة عملي الصحفي التي تجاوزت (20) عاماً، كانت مشكلة مياه الشرب تتجد مع حلول كل فصل من الصيف اللاهبة ، هذه الأزمة المعقدة تقف خلفها أسباب عديدة منها الحرب الحالية ، وضعف البنية التحتية المتهالكة وإنفجار إنبايب المياه بالطرقات، وتزايد عدد سكان الخرطوم بشكل غير مسبوق والهجرة الواسعة من الريف الي المدينة بسبب تناقص وسائل كسب العيش أو النزاعات والحروب التي ظلت تنخر في جسد بلادنا منذ أكثر من خمسين سنة، ولم تتوقف حتي يومنا هذا، مع إهمال التخطيط الإستراتيجي، وما زاد الطين بلة، إنقطاع التيار الكهربائي.

العطش يسكن الخرطوم

رغم أن الخرطوم تتربّع على ملتقى نهرين عظيمين، فإن سكانها يعانون من شح مياه الشرب. ما يبدو لأول وهلة مفارقة ساخرة، يتضح عند النظر العميق فيها أنه نتيجة تراكمات تاريخية في البنية التحتية، وسوء التخطيط، وتحديات بيئية واقتصادية، فمنذ عشرات السنين، لم تشهد المدينة تطويراً حقيقياً لمنظومة المياه بما يتناسب مع النمو السكاني المتسارع، الذي بلغ ملايين السكان، وتعتمد شبكات المياه على محطات قديمة تعاني من الأعطال المتكررة، إضافة إلى التوسع “العشوائي” في الأحياء السكنية، كما أن معظم الشبكات لم تُصمَّم لتغطية هذا العدد الضخم من السكان، لا من حيث الكمية، ولا من حيث جودة المعالجة، فضلاً عن البنية التحتية المهترئة، فمعظم أنابيب المياه في العاصمة، تعود لعقود مضت، حيث أُنشئت في فترات سابقة ولم يُجرَ عليها تحديث جوهري.،هذه الشبكات تتعرض للتسريبات والإنفجارات المتكررة، ما يؤدي لفقد كميات كبيرة من المياه، ونقص الكهرباء والديزل تعتمد المحطات على مضخات تحتاج إلى طاقة كهربائية مستمرة، لكن بسبب الانقطاعات المتكررة في الكهرباء وأزمات الوقود، تعجز المحطات عن العمل بانتظام، ما يؤدي لتوقف الضخ، التداعيات الإجتماعية لهذه الأزمة ليس فقط في جفاف (مواسير المياه) هذه التداعيات تسربت إلى كل تفاصيل حياة سكان الخرطوم الذين حصدتهم الحرب والكوليرا والإسهالات المائية، فالأسر تحصل علي حصتها من المياه من (عربة الكارو).. النساء والأطفال يمضون ساعات يومياً ومسافات طويلة في جلب المياه، هذا الوقت الثمين، كان يجب أن يستثمر في التعليم أو العمل او الراحة.

لمواجهة هذه الأزمة نشطت مبادرات مجتمعية، ونفير جماعي في شراء طاقة شمسية لتشغيل محطات المياه لكن، هذه المشاريع غالباً ما تتعثر بفعل التمويل، أو الإستقرار السياسي، فالحلول الإستراتيجية تكمن في وقف الحرب، ونقل الخدمات التنموية إلى الريف، ووضع خطة طويلة الأمد تشمل تحديث شبكات المياه وإستقرار التيار الكهربائي لمحطات الضخ، وبناء محطات تحلية أو معالجة حديثة، وتعزيز الشفافية والرقابة على قطاع المياه.

الحنفية الجافة أزمة متفاقمة

لكن الأزمة، في جوهرها، ليست فقط تقنية أو سياسية؛ إنها قصة مأساة إنسانية بامتياز. إنها حكاية امرأة تستيقظ في الفجر الباكر لتقف في صف طويل أمام صهريج متنقل، وحكاية طفل يذهب إلى مدرسته دون أن يغسل وجهه، وحكاية عجوز يعاني في صمت من العطش، لأن ساقيه لا تقويان على حمل جركانة الماء.. إنها مأساة تُروى كل يوم بصوت خافت، لا يسمعه كثيرون، لكنه، يتردد في جدران المنازل وقلوب السكان، ورغم كل هذا، لا تزال الخرطوم تُقاوم، لا يزال أهلها يتحلّون بصبر مدهش، وروح تضامن ملهمة. يوزعون ما توفر من الماء بين الجيران، يتبادلون الأخبار حول “وين جات الموية اليوم؟”، ويعلّقون الأمل على صباحات أقل جفافاً، فالخرطوم، على عطشها، لا تزال مدينة تنبض بالحياة، تنتظر حلاً يعيد إليها ما فقدته من كرامة الماء، وكرامة الإنسان، وتعرضت محطات المياه في ولاية الخرطوم إلى أعطاب جسيمة منذ اندلاع الحرب، حيث طال بعضها التخريب المتعمد والسرقة، فيما تعرضت أخرى إلى القصف والاحتراق نتيجة المواجهات المسلحة بين القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، ما أدى إلى توقف شبه كامل في خدمات المياه في عدد من الأحياء الحيوية إفادات المواطنيين.

في حديثهم مع (سودانس ريبورترس) بكل من الأزهري، وسوبا، والسلمة، وعد حسين، ركّزوا على المعاناة الناتجة من تفاقم مشكلة المياه النقية وإرتفاع قيمتها من خلال عربات الكارو، حيث يلجاء البعض للذهاب للمضخات القريبة من سكنهم للحصول علي المياه، وفي السلمة المدينة الخيرية، توفيت إمراتان بسبب إنتشار مرض الكوليرا، وإصابة (20) حالة، تم تحويلها لمستشفي بشائر لتلقي العلاج.

أين اختفى الماء ؟!.

ومن جهتها قالت هيئة مياه ولاية الخرطوم، في بيان لها صدر مؤخراً، إستمرار عملها لضمان وصول المياة النظيفة والآمنة إلى جميع أحياء ومدن ولاية الخرطوم، رغم التحديات الفنية واللوجستية التي تواجهها فرق التشغيل والصيانة، وأكدت الهيئة، أن محطة مياه سوبا تعمل حالياً بمولد جازولين، لحين وصول الكهرباء العامة، ولفتت إلي أن الإنتاجية الكلية لمحطة سوبا تبلغ (8800) متر مكعب، وتبلغ الكمية الموزعة لشبكات المياه العامة (4600) متر مكعب، بينما بلغت الكمية الموزعة لمنطقة الصحافة (4200) متر مكعب، ونبهت الهيئة في بيانها إلي بداية ضخ مياه الشرب المنتجة من محطة المقرن إلي عدد من المناطق السكنية في أمدرمان، وقالت إن هذا التطور يأتي ضمن خطة متكاملة لتحسين وتوسيع خدمات المياه في الولاية، مشيرة إلي إن فرقها الفنية كثفت من عملها في إصلاح وتشغيل المحطات الرئيسية.

وتعتبر محطة مياه المقرن من أبرز المحطات الاستراتيجية في الولاية، إذ تغذي مناطق وسط وشرق الخرطوم، إلى جانب عدد من الأحياء السكنية في أم درمان.. وأفادت الهيئة بأن هناك مناطق بدأت تستقبل المياه من بينها حمد النيل، والدوحة (الجزء الغربي والجنوبي)، وبانت غرب، وأجزاء من مربعات أبو سعد. وحتّى كتابة هذا التقرير، لم تبرز فى الأفق، جهود متكاملة لحل مشكلة مياه الخرطوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *