نساء السودان في الحرب.. صمودٌ تحت النار وصرخة ضد العنف
كتب: حسين سعد
في العام الثالث لحرب منتصف أبريل في السودان، تظل المرأة السودانية شاهدة على أكثر الوجوه قسوةً للنزاع، وحاملةً لعبءٍ يتجاوز حدود الاحتمال، بين نزوحٍ مرير، وفقدٍ موجع، وخوفٍ يلازم الخطوات، تتعرض النساء والفتيات لأشكال متعددة من العنف، تتراوح بين العنف الجنسي والاستهداف القائم على النوع الاجتماعي، وبين انهيار منظومات الحماية والأمان، وفي خضم هذه المعاناة، تنطلق حملة 16 يوم لمناهضة العنف ضد المرأة هذا العام كنداء عالمي جديد، لكنه في السودان يأخذ طابعاً أكثر إلحاحاً وإيلاماً، إذ تتحول الحملة من مجرد شعار إلى صرخة إنسانية تطالب بحماية النساء من الانتهاكات اليومية، وإحياء ما تبقى من كرامتهن وحقهن في الأمان، نساء بلادي الجسورات يحملن رماد المدن فوق أكتافهن في السودان الذي إحترقت خرائطه بالحرب وامتدّ لهيبها بين الخرطوم ودارفور والجزيرة وكردفان، تبدو النساء أكثر من يدفع الثمن؛ ثمن النجاة، وثمن الصمت، وثمن أن يكنّ حارسات للحياة بينما تتداعى كل مظاهرها من حولهن.
في فضاءٍ يتكثّف فيه الدخان فوق المنازل المهدّمة، وأمام طرقات محفوفة بالخوف والنزوح والانتهاكات، تظهر المرأة السودانية كأنها (قلب البلاد)الذي يواصل النبض رغم كل ما يسعى لإطفائه، وفي ظل هذه الحرب الكارثية ، أصبحت قصص النساء السودانيات مرايا تكشف ما لم يعد خافيًا، أجساد مستباحة، حقوق مُهدرة، طفلات فقدن الأمان، وأمهات يركضن بإصرار خلف حياة أبنائهن في دروب النزوح الطويلة. وفي الوقت ذاته، تتصاعد أصوات المحامين والمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان، والمنظمات النسوية، والمجتمع المدني، بالتزامن مع حلول حملة 16 يومًا لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، لتكشف للعالم أن ما تتعرّض له نساء السودان ليس حوادث متناثرة، بل نمطًا من العنف الممنهج الذي يجعل أجساد النساء ساحة حرب بديلة، تبدو الحرب وكأنها أعادت إنتاج أسوأ وجوه التاريخ: اغتصاب جماعي، عنف جنسي، استعباد، زواج قسري، احتجاز، إجبار نساء على الخدمة القسرية، نزع الأطفال من أمهاتهم، وتحويل الأحياء السكنية إلى كمائن للانتهاكات. في كل يوم تواصل النساء سرد حكايات لا تنتهي؛ حكايات محروقة الأطراف، لكنها صلبة من الداخل، تحمل في جوهرها رغبة عميقة في النجاة والعدالة وإعادة كتابة المصير.
صمودٌ تحت النار وصرخة ضد العنف:
إن الحديث عن معاناة المرأة السودانية ليس توثيقاً للألم فحسب، بل محاولة لالتقاط قوة الصمود المذهلة التي تبديها في مواجهة واقعٍ مأساوي تجاوز حدود الكارثة. فهنّ من يواصلن حماية أسرهن وسط الجوع والرعب، ومن يحاولن التمسك بالنجاة رغم الأعاصير التي عصفت بكل مقومات الحياة. وحملة 16 يوم تأتي اليوم لتضع الضوء على جراحٍ لم تندمل، وتطالب العالم بالإنصات إلى أصوات النساء اللواتي يتعرضن للعنف، وبذل الجهد لوقف الانتهاكات التي تُمارس في الظل، وسط ظلال الحرب التي تخيم على السودان منذ اندلاع النزاع المسلح، تكاد معاناة المرأة السودانية تختصر قسوة المشهد الإنساني برمّته، فالحرب لم تُفرّق بين جغرافيا وأخرى، ولم تميز بين فئات المجتمع؛ لكنها أثقلت كاهل النساء على نحو مضاعف، لتصبح أجسادهن وأرواحهن ساحة مواجهة لا تقلّ ضراوة عن ساحات القتال، تتعرض النساء والفتيات لأشكال متعددة من العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك العنف الجنسي، الاستعباد، الاختطاف، والابتزاز، في بيئة انهارت فيها المؤسسات وضعفت فيها نظم الحماية. وفي هذا العام تأتي حملة 16 يوم لمناهضة العنف ضد المرأة هذا العام في السودان ليس باعتبارها مناسبة دعائية، بل كضرورة أخلاقية وإنسانية عاجلة لإعادة تسليط الضوء على المعاناة الصامتة التي تعيشها النساء كل يوم. فهذه الحملة التي تجوب العالم سنوياً تحمل في السودان معنىً أكثر عمقاً، لأنها موجّهة لنساء يقاومن الموت في كل لحظة، ويدفعن أثماناً فادحة بسبب النزوح، وانهيار الخدمات، وانعدام الأمن، وتفكك البنى الاجتماعية، وفي صفحتها في الفيس بوك اليوم ، قطعت وزيرة الدولة للموارد البشرية والتنمية الاجتماعية سليمي إسحاق بإستحالة وجود سلام في السودان ما دامت النساء مستهدفات ومهددات ، وقالت الوزيرة في بيان لها اطلعت عليه مدنية نيوز بمناسبة حملة الـ16 يوم لمكافحة العنف ضد المرأة نُطلق في وقت تتعرض فيه النساء والفتيات في الفاشر وبارا لإنتهاكات مروّعة وموثّقة ارتكبتها قوات الدعم السريع، في جرائم تُعد من أخطر الانتهاكات الموجّهة ضد المدنيين والنساء في سياق النزاع المسلح، ومن جهتها قالت الأمم المتحدة في صفحتها علي الأنترنت إن الحملة تسعي هذا العام لإنهاء العنف الرقمي ضد النساء والفتيات، فالحكومات مطالبة بإنهاء الإفلات من العقاب بقوانين تجرّم هذا العنف، والشركات التِّقانية مطالبة بضمان سلامة المنصات وإزالة المحتوى الضار، والجهات المانحة عليها توفير التمويل اللازم لتمكين المنظمات النسوية من مكافحة هذا العنف، وأشخاص مثلكم مطالبون برفع أصواتهم دعما للناجيات، وأوضحت إن الأدوات الرقمية تستخدم على نحو متزايد في الملاحقة والمضايقة وإساءة معاملة النساء والفتيات، ويشمل ذلك الاعتداءات القائمة على الصور/ مشاركة الصور الحميمية من دون موافقة — المعروفة غالبا بـ(الانتقام الإباحي) أو (تسريب الصور) والتنمّر الإلكتروني والتصيد والتهديدات عبر الإنترنت، والتحرش عبر الأنترنت والتحرش الجنسي ن والمعلومات المضللة علي منصات التواصل الاجتماعي.
ضحية الحرب ووجهها الأكثر صلابة
إن هذا المقال ليس فقط محاولة لتوثيق حجم الانتهاكات، بل لرسم صورة إنسانية لحياة نساء يكافحن من أجل البقاء وسط خرابٍ مستمر، ولتقديم قراءة حقوقية تُظهر ضرورة حماية المرأة السودانية والعمل من أجل إنهاء العنف الموجه ضدها في ظل إستمرار الحرب التي حوّلت حياة النساء إلى سلسلة من المساحات المحفوفة بالخطر، فالمنازل لم تعد آمنة، والمعابر ليست ممرات للهرب بل مصائد محتملة، والمخيمات التي يفترض أن توفر الأمان باتت في بعض المناطق نقاطًا جديدة للعنف والابتزاز، حيث تركت الحرب اللعينة أثر بالغ على كل فئات المجتمع، لكنها ضربت النساء بدرجات أكثر قسوة، حيث يقمن بأدوار أساسية داخل الأسرة وفي المجتمعات المحلية. ومن أبرز مظاهر هذا التأثير: النزوح الواسع وفقدان الاستقرار أجبرت الحرب ملايين النساء والفتيات على النزوح من الخرطوم ودارفور والجزيرة ومناطق أخرى، وغالباً ما يتم النزوح في بيئات خطرة، ما يعرضهن للتحرش والاستغلال والابتزاز الجنسي. بعضهن يقطعن مئات الكيلومترات سيراً على الأقدام، حامِلات أطفالهن، باحثات عن الأمان في ولايات أكثر استقراراً أو حدود الدول المجاورة، كثيرات فقدن أزواجهن أو أقاربهن في المعارك، وبعضهن وجدن أنفسهن مسؤولات عن إعالة أسر ممتدة في ظروف غاية في القسوةن في ظل إنهيار الخدمات الأساسية إنهيار النظام الصحي الذي أدى بدوره إلى غياب خدمات رعاية الحوامل ، والأمومة الآمنة، وتوفير الدعم النفسي للناجيات من العنف، وتوفير خدمات الصحة الإنجابية، فالنساء اللواتي يحتجن لعمليات قيصرية أو علاج من إصابات الحرب يجدن أنفسهن بلا رعاية، مما يضاعف نسبة الوفيات.
بين النزوح والجراح الصامتة:
كما تسببت الحرب الكارثية لغياب شبكات الحماية الاجتماعية مع فرار الرجال أو تجنيدهم أو فقدانهم، أصبحت آلاف النساء معيلات وحيدات لأسرهن، يواجهن صعوبات اقتصادية قاسية، ويفتقدن للأنظمة التقليدية التي كانت توفر لهن الحماية والدعم، في ظل إنهيار الإقتصاد وتدمير الأسواق وسرقة المتاجر وانقطاع الرواتب إلى خلق بيئة تدفع النساء — خاصة النازحات — إلى خيارات قاسية. فبعضهن يجبرن على العمل في مهن غير آمنة، والبعض يواجهن ضغوطًا للاستغلال الجنسي مقابل الطعام أو الحماية أو الانتقال من منطقة لأخرى، في ظل هذا الواقع الأليم تتزايد المخاطر على الأطفال والمراهقات في المعسكرات ومراكز الإيواء المكتظة، حيث تنتشر ظواهر الزواج المبكر، والتحرش، والاستغلال، فالعنف القائم على النوع الاجتماعي… جريمة تتسع رقعتها الحرب فتحت الباب لارتفاع غير مسبوق في العنف ضد النساء، حيث أصبح الجسد الأنثوي نفسه ساحة من ساحات الصراع، وتستخدم بعض المجموعات المسلحة العنف الجنسي كسلاح حرب كوسيلة لإذلال المجتمعات، وبث الرعب، وتشمل هذه الانتهاكات: الاغتصاب الفردي والجماعي، والإستعباد الجنسي، والإحتجاز القسري للنساء، وإجبار النساء على خدمة المقاتلين، والابتزاز مقابل الحماية أو الغذاء، التحرش والإبتزاز في نقاط العبور والتفتيش، حيث تعاني النساء خلال النزوح في الطرقات لاجبارهن علي دفع رسوم مقابل المرور، لاسيما تهديد النساء اللواتي لا يمتلكن مرافقين ذكور، كل هذه الأنماط من الجرائم تُرتكب في ظل صمت دولي وغياب تام لمحاسبة الجناة، وتعتبر هذه الممارسات انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية لحقوق الإنسان، في ظل غياب الدولة الحامية، وإنهيار أجهزة الدولة الرقابية والقضائية، مما خلق بيئة مثالية لارتكاب الجرائم دون خوف من الملاحقة، فالنساء اللواتي يتعرضن للعنف الجنسي أو البدني لا يجدن مكاناً يقدم لهن الحماية أو يتلقّى بلاغاتهن. حتى المستشفيات التي نجت من الدمار تفتقر إلى الأدلة الجنائية، والأطباء المختصين، والدعم النفسي والقانوني، والناجيات من العنف يتعرضن للوصم الاجتماعي، ويتم تهديدهن أو أسرهن لإجبارهن على عدم الإبلاغ. هذا يجعل الجرائم تختفي في الظل، وتبقى النساء عاجزات عن الوصول إلى العدالة، بسبب ضعف التشريعات القانونية وضعف التنفيذ، وغياب الإرادة السياسية، فالمرأة السودانية اليوم ليست فقط ضحية حرب، بل هي أيضاً عمود مقاومة يقاوم الانهيار ويعيد بناء ما أمكن من حياة، لذلك المطلوب اليوم قبل غداً، لحماية النساء هو وقف فوري للانتهاكات وحماية النساء في مناطق الحرب، ودعم المستشفيات بخدمات الصحة الإنجابية والعلاج من العنف، وإعادة تفعيل الشرطة ونيابات الأسرة، وسنّ قوانين أكثر صرامة لحماية النساء، وإجراء تحقيق دولي مستقل في جرائم العنف الجنسي، وممارسة ضغط من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لفتح ممرات آمنة للنساء، ودعم المنظمات النسوية التي تعمل في ظروف خطرة، وتضمين حماية المرأة في أي اتفاق لوقف إطلاق النار أو عملية سلام أو مفاوضات قادمة.
سلام يبدأ من حماية النساء:
تبقى قضية العنف ضد المرأة في السودان جرحاً مفتوحاً لا يلتئم إلا بوقف الحرب وإرساء العدالة وإنصاف الضحايا، فالنساء لسن مجرد أرقام في تقارير إنسانية، بل أرواح تنزف بصمت، وأحلام تتكسر تحت وقع القذائف، وأمهات وزوجات وبنات يقاتلن كل يوم من أجل البقاء، إن حملة الـ16 يوم لمناهضة العنف ضد المرأة ليست مجرد مناسبة عابرة، بل دعوة أخلاقية لإعادة الاعتبار للمرأة التي تحمل نصف المجتمع وتدفع وحدها ثمن الحرب مرتين: مرةً حين تفقد بيتها وأمانها، ومرة حين تُستهدف لأنها امرأة، لقد آن الأوان أن يُسمع صوت النساء السودانيات، وأن تُحمى أجسادهن وكرامتهن وحقوقهن وفق القوانين الوطنية والدولية. وآن للعالم أن يتحرك من دائرة التضامن النظري إلى الفعل الحقيقي، لأن أي سلام لا يضع حماية النساء في قلبه هو سلام ناقص. تبقى المرأة السودانية، رغم الجراح العميقة، رمزاً للشجاعة وقصة مقاومة لا تنتهي، وقنديل إنساني يضيء وسط ظلام الحرب، ينتظر أن تمتد إليه يد العدالة والرحمة ليواصل إشعاعه في مستقبلٍ أكثر أماناً وكرامة، وتظل الحقيقة الأكثر مرارة هي أن المرأة السودانية اليوم تقف وحدها في مواجهة حربٍ تتغذى على ضعفها وتستهدف جسدها وكينونتها، إنها لا تحارب فقط من أجل البقاء، بل من أجل حماية أطفالها، واحتفاظها بما تبقى من كرامتها وسط عالم يتهاوى، إن أصوات النساء اللواتي يتعرضن للعنف يجب ألا تختفي في الصمت، فكل واحدة تحمل جرحاً أعمق من أن يُرى، وكثيرات يحملن ندوباً لا يجرؤن على الكلام عنها، دعونا نجعل من حملة 16 يوم ليست مجرد مناسبة، بل صرخة ممتدة، دعوة ملحة لوقف الحرب، لوقف العنف، لوقف الانتهاكات التي تُمارس تحت ليل الخوف، إن حماية النساء ليست خياراً، بل واجباً قانونياً وأخلاقياً، ولا يمكن الحديث عن سلام أو انتقال أو مستقبل دون ضمان مكان آمن للمرأة السودانية، ودون أن تحصل كل ناجية على العدالة التي تستحقها، فنساء السودان يحملن اليوم جراحًا لا يراها العالم بالقدر الكافي. أصواتهن تغرق أحيانًا في ضجيج السلاح ودخان الحرائق، لكن كل قصة منهن هي شهادة، وكل دمعة منهن وثيقة، وكل صرخة هي مطالبة بحق لا يسقط بالتقادم، ونقول بأن إن حماية النساء ليست منحة ولا قضية هامشية، بل حجر أساس لأي مجتمع يسعى للسلام. لا يمكن بناء وطن فوق أجساد مكسورة أو أرواح مُنهكة، لذلك لا يمكن الحديث عن مستقبل آمن بينما نصف المجتمع يعيش في خوف دائم من العنف والوصمة والإفلات من العقاب، عموماً :ستبقى المرأة السودانية — رغم الجراح والحزن — شعلة مقاومة، تنير طريق الحياة في الخراب، وتنتظر اليوم الذي يُبنى فيه وطن لا تُستهدف فيه لأنها امرأة، بل تُكرَّم لأنها أصل الحياة وصانعة المستقبل.

