الإثنين, نوفمبر 3, 2025
تقاريرسياسة

المجتمع المدني في زمن الحرب من الركام والنزوح إلى إعادة البناء

كتب: حسين سعد

عقب إندلاع الحرب في أبريل 2023 شهد السودان إنهياراً واسعاً لمؤسسات الدولة، وتدهوراً غير مسبوق في البنية الاقتصادية والاجتماعية، وأفرزت هذه الحرب الكارثية واقع جديد معقد على كافة المستويات ، حيث انهارت مؤسسات الدولة وتفككت الروابط الاجتماعية وتراجع حضور الفاعلين المدنيين في المشهد العام. لم يكن المجتمع المدني بمنأى عن آثار هذه الحرب، بل كان من أكثر القطاعات تأثرًا، نظرًا لدوره التاريخي في الدفاع عن الحقوق والحريات، وفي قيادة التحولات الديمقراطية التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة، غير أنّ هذه الحرب أيضاً كشفت هشاشة البنية الداخلية للمجتمع المدني، وانقساماته السياسية والمناطقية، وضعف قدرته على بناء رؤية موحدة لمستقبل السودان، في مشهد يزداد تعقيدًا يوماً بعد يوم، يعيش المجتمع المدني السوداني حالة من التشتت والانقسام الداخلي، في وقت تبدو فيه البلاد أحوج ما تكون إلى صوته الموحد ومبادراته الفاعلة. تتباين المواقف بين الفاعلين في هذا الحقل، لكن ما يجمع عليه أغلبهم هو أن الحرب أعادت طرح أسئلة جوهرية حول معنى ودور “العمل المدني” نفسه، وحدود ارتباطه بالسياسة، وبالقوى الدولية، وبالقاعدة المجتمعية التي يدّعي تمثيلها.

من الأزمة إلى الإعمار

أدخلت الحرب البلاد في نفق من الإنهيار الشامل، طال مؤسسات الدولة والاقتصاد والبنية الاجتماعية على حد سواء. ومع هذا الانهيار الواسع، وجد المجتمع المدني نفسه في قلب العاصفة، إذ لم يكن بمنأى عن تداعيات الحرب، بل كان من أكثر القطاعات تأثراً، لكونه يمثل أحد أعمدة الفعل الديمقراطي والدفاع عن الحقوق والحريات، وسط هذا الانهيار برز المجتمع المدني كأحد الفاعلين الأساسيين في مواجهة الكارثة الإنسانية والسياسية، حيث تولّى أدواراً تتجاوز وظيفته التقليدية، فصار يقدم الإغاثة، وينسّق عمليات الإنقاذ، ويوثق الانتهاكات، ويمثل صوت الضحايا ولاهمية هذا الموضوع نظم المركز الافريقي لدراسات العدالة والسلام الجلسة الحوارية الثامنة ضمن مشروع السلام والشباب تحت عنوان :المجتمع المدني بين التشرزم والتكامل : نحو أرضية مشتركة للعمل الجماعي في السودان يوم السبت الموافق الاول من نوفمبر 2025م ببيت حقوق الانسان بكمبالا، ناقشت ستة محاور مترابطة: الانقسام الداخلي، دور الشباب والمنظمات الجديدة، فرص التنسيق، الهوية المستقلة، والآفاق المستقبلية نحو خارطة طريق عملية.

واقع الانقسام وآفاق الوحدة

وأشار المشاركون في الجلسة الحوارية الي وجود إشكالية في التمويل وبعض التكايا وغرف الطؤاري أغلقت بسبب هذه المشكلة ،وأوضحوا أن المجتمع المدني رغم الانقسام والتشتت ما يزال يحتفظ بدوره الحيوي كفاعل أساسي في الحفاظ على النسيج الاجتماعي، وأن إعادة بنائه تتطلب رؤية وطنية شاملة وإطاراً قانونياً جديداً يضمن الاستقلال والفعالية، كما تعرضت مقار المنظمات الكبرى في الخرطوم ومدن رئيسية أخرى إلى النهب والتدمير أو الإغلاق القسري، ما أدى إلى نزوح آلاف الناشطين والعاملين المدنيين إلى مدن أخري مثل بورتسودان وكسلا ومدني، قبل سقوطها أو إلى دول الجوار، وقالوا إن إنخراط بعض قوي المجتمع المدني في الحكومة الانتقالية قبل الانقلاب عليها مشكلة ساهمت في الانقسام ، وعقب الحرب زادت الهجمة علي المجتمع المدني حيث اتجه طرفي الحرب لتأسيس مجتمع مدني خاص بهما ، وقالوا ان الحرب لم تصنع هذا الانقسام بقدر ما كشفت هشاشة البنية المدنية التي تأسست في السنوات الأخيرة، وكشفت عن عمق التناقض بين مجتمع مدني نخبوي ممول من الخارج، وآخر قاعدي يعمل بإمكانات محدودة داخل المجتمعات المحلية. هذا التفاوت البنيوي أضعف القدرة على التنسيق، وأفقد المجتمع المدني ثقة جزء كبير من جمهوره الذي يعيش يوميًا معاناة النزوح والجوع وانعدام الخدمات،ويلاحظ أن كثيرًا من منظمات المجتمع المدني دخلت الحرب وهي مثقلة بخلافات قديمة تتعلق بالمرجعيات والأولويات، مما جعلها غير قادرة على بلورة موقف موحد من الصراع، فبينما اتخذت بعض الجهات موقف الحياد الإنساني، انخرطت أخرى في اصطفافات سياسية صريحة، الأمر الذي أدى إلى تآكل الثقة المتبادلة وتحول الساحة المدنية إلى فسيفساء من المبادرات المنعزلة، في المقابل، برزت خلال الحرب مبادرات جديدة يقودها شباب وشابات خارج الأطر التقليدية، اعتمدت على العمل الطوعي المباشر والإغاثة المجتمعية، وسعت إلى استعادة المعنى الأصلي للعمل المدني القائم على التضامن الإنساني. هذه التجارب، رغم محدودية مواردها، أعادت الأمل في إمكانية بناء حركة مدنية أكثر استقلالية وارتباطًا بالناس، لكنها تواجه تحديات قاسية تتعلق بالاستمرارية والأمن والتمويل وسياساته التي ساهمت في مفاقمة التباينات.

مازال الأمل قائماً

ومع ذلك، ما يزال الأمل قائمًا في أن تعيد القوى المدنية تعريف نفسها، وأن تتجه نحو صياغة ميثاق مدني يستند إلى الشفافية، والمساءلة، والشراكة القاعدية. فالسودان لا يحتاج إلى شعارات عن المجتمع المدني بقدر ما يحتاج إلى ممارسة مدنية حقيقية، تترجم قيم الحرية والكرامة والعدالة إلى فعل يومي يلمّ شتات الناس، لا يزيد انقسامهم، بسبب إنتشار المجموعات المسلحة ، ومحاولات بعض القوى المسلحة توظيف منظمات المجتمع المدني لأغراض سياسية أو دعائية زاد من تعقيد المشهد، وأشاروا للدور الفاعل الذي قام به الشباب ومازالوا مثل غرف الطوارئ التي أسسها الشباب لتوفير الغذاء والدواء والملاذ الآمن في الخرطوم ومدني ودارفور، والمبادرات الرقمية التي توثق الانتهاكات وتنشر قصص الضحايا وتنسّق الدعم عبر وسائل التواصل، والشبكات النسوية التي تولّت رعاية النساء المتأثرات بالحرب في معسكرات النزوح، حيث يمتاز هذا الجيل الجديد بأنه مرن، غير مركزي، ومتجذر في الواقع المحلي. ويقدّم نموذجاً جديداً من المجتمع المدني يقوم على القيم التضامنية والعمل التطوعي والابتكار التقني، وهو ما يجعلهم حجر الزاوية في أي مشروع لإعادة بناء المجتمع المدني في السودان، وهو يخلق فرصة بناء أرضية مشتركة بين مختلف الفاعلين المدنيين، في قضايا مثل وقف الحرب وتحقيق العدالة الانتقالية، قضية المفقودين، الإغاثة، والتعليم، وإعادة الإعمار، وهي قضايا عابرة للانتماءات السياسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *