الجزيرة.. الأرض التي صنعت التاريخ (1)
كتب: حسين سعد
في حواشات وتفاتيش مشروع الجزيرة والمناقل، التي تمتد كصفحاتٍ خضراء تُكتب عليها حكايات الصمود والأمل، يقف المزارع شاهدًا على مفارقةٍ مؤلمة، بسبب حرب منتصف ابريل 2023م التي دمرت مؤسسات المشروع ونهبت أصوله وشردت مزارعيه ، وأدت الي تناقص الانتاج وتراجع المساحات المستهدفة بالزراعة ،كما جفت قنوات الري بالمشروع من المياه واغلقتها الحشائش والطمي، ولم تجد الصيانة لازالة تلك الحشائش التي اعاقت إنسياب المياه لري المحصولات الزراعية.
مزارع الجزيرة الذي كان يومًا يطلق عليه (جمل الشيل) وكان رمزًا للصبر والبذل، تحوّل في زمنٍ الحرب إلى بطلٍ منسيّ، يقاتل بصمتٍ بين قسوة لعلعلة الرصاص والنزوح، وفقدان الاحبه، وتصلّب البيروقراطية، بين عطش الأرض، وتكاليف فلاحتها، وغياب التمويل ومدخلات الانتاج، شيخ المشاريع الزراعية، ليست أزمته مجرد نقص في كسل المزارع أو تقلب في المواسم، بل هي أزمة في إدارته وقوانينه الداعمة للانتاج والمزارعين التي فقدت حضورها الباكر للحواشات، وأهلنا يقولوا لنا إن الزراعة مواقيت، لذلك طبيعي جدا نشاهد في مايو ويونيو من كل عام غياب آليات تطهير ونظافة الترع والقنوات ، وعندما يغرس المزارع أرضه بمحصولاته الزراعية ينتظر ، في يوليو وإغسطس أمطار السماء، التي تأتي بمعدلات غزيرة تلحق خسائر بالمحاصيل الزراعية ، فيهرع المزارع لسحبها وشطفها عبر ( الجرادل) أو (طلمبات سحب) وهذه مكلفة جداً ، ومن المشاكل أيضا ان السياسة الزراعية لكل موسم زراعي، تضع من وراء المكاتب دون أن تلمس سراب الحواشات أو تسمع شكاوي المزارعين، السؤال هنا كيف تُزهر الزراعة في بيئةٍ تُهمَّش فيها اليد التي تحرث، ويُغيب عنها العقل الذي يعرف الأرض ترعة ترعة وسرابه سرابه؟ سوف تنشر مدنية نيوز سلسلة من التقارير عن شيخ المشاريع الزراعية في السودان مشروع الجزيرة والمناقل تتناول تلك التقارير( واقع الحال بمشروع الجزيرة والمناقل -والجزيرة من حرب أبريل إلي أمل جديد – تناقص المساحات وتراجع الانتاج وفساد السماد -الفوضي وهشاسة الرقابة-تريف الريف ومغادرة أبناؤه الحواشات – إبتعاد الشباب ع الحواشات والحقول -صيغ التمويل الموجهة للقطاع الزراعي تجارب دولية -الجزيرة ليست عطشي للماء بل للسياسات الرشيدة- البنوك الزراعية والجمعيات التعاوينة في تمويل الزراعة – غياب العدالة الاجتماعية في التمويل – تهميش صوت المزارعين -عندما تصمت الارض ويسكت صوت المزارع -دور الاعلام في نهضة الزراعة ودعم الانتاج).
تراب الجزيرة: بين الماضي المجيد ومستقبل الزراعة:
على ضفاف النيلين الأبيض والأزرق، وعلى أرض الجزيرة الخصبة التي تلتقي فيها مياه الري بسحر التربة السودانية، نشأت واحدة من أعظم التجارب الزراعية في تاريخ السودان الحديث مشروع الجزيرة، منذ بداياته، لم يكن مجرد مشروع زراعة، بل كان حلمًا وطموحًا، رمزًا للقدرة على تحويل الأرض العطشى إلى بحرٍ أخضر يفيض حياةً وخيرًا. في قلب المشروع، وقف المزارع السوداني، يزرع الأمل كما يزرع القمح،والكبكبي ، ويغرس العزيمة كما يغرس الذرة والطماطم والخضروات في التربة، منذ تأسيسه في العام 1925م، شكل مشروع الجزيرة والمناقل قلب الزراعة السودانية النابض، وموطنًا للخبرة والمعرفة والتجربة، وحاضنة للكرامة الريفية التي توارثتها الأجيال، جيلاً بعد جيل كان المزارع هنا ليس مجرد منتج، بل صانع تاريخ، شريك في التنمية، وحارسًا للغذاء الوطني، ومع ذلك، فقد شهد المشروع تحولات كبيرة قبل وبعد الحرب، تعرضت فيها الأرض للفقد، وأُهمل المزارع، وتآكلت الثقة بين الإنسان والتربة، بين الدولة ومن يزرعها، إن الحديث عن مشروع الجزيرة اليوم ليس مجرد سرد للتحديات، بل رحلة عبر الزمن لاستعادة ما فقدناه: الأرض الخصبة، الإبداع الزراعي، والكرامة الإنسانية. في هذا التقرير، نسعى لإعادة سيرته الاولي لتراب المشروع الذي ما زال يحمل وعد الحياة، وإلى الأمة التي تفتقد إلى بصيص الأمل في أعين من يزرعونها، والمزارع الذي لم يهدأ قلبه رغم الحرب، والقوانين الجائرة؟.
التاريخ المجيد لمشروع الجزيرة:
تأسس مشروع الجزيرة في منتصف القرن العشرين ليكون نموذجًا للتنمية الزراعية المتكاملة في السودان. كان الهدف تحويل مناطق واسعة من الأراضي الطينية الخصبة إلى محاصيل استراتيجية مثل القطن والقمح والذرة، بما يضمن الأمن الغذائي ويعزز الاقتصاد الوطني، خلال عقود، شكل المشروع صرحًا من الخبرة الزراعية، حيث اندمجت المعرفة التقليدية للفلاح مع الأساليب العلمية الحديثة، وأصبح رمزًا للنجاح والإنتاجية كان المزارع هنا أكثر من مجرد زارع، بل كان مهندسًا للتربة، ومبتكرًا للأساليب الريفية، وراعيًا للتوازن البيئي، في تلك الحقبة، ازدهرت القرى والمدن الصغيرة حول القنوات والجسور، وارتبطت حياة الناس بشكل وثيق بالمشروع، حيث كان مصدر الرزق والأمن الغذائي. ساهمت التجربة في تعزيز الهوية الوطنية وإعادة الاعتبار للزراعة كمهنة كريمة، ومع إستيلاء الحركة الاسلامية علي السلطة عبر انقلابها العسكري في العام 1989م ، تراجع الدعم للمزارعين، وتدهورت البنية التحتية للري، وانخفضت الإنتاجية بشكل كبير، وفقد المزارع جزءًا من أدواته، وأصبحت التحديات اليومية أكبر من مجرد الزراعة، إذ تحولت إلى معركة بقاء في ظل نقص المياه، وارتفاع تكاليف المدخلات، والتقلبات السوقية، ومع اندلاع الحرب ودخوبل قوات الدعم السريع الي الجزيرة في ديسمبر 2023م قتل المزارع وتشرد ونزح من قريته وأرضه وأصبح يعيش بين إرث الماضي المجيد وواقعٍ هش بعد الحرب، وفي حصاد الموسم الشتوي في العام 2023م فرضت قوات الدعم السريع رسوم ماليه مقابل أذن الحصاد للمحصولات الزراعية وفرض غرامات للذين لم يسددوا تلك الرسوم ، في هذه الحرب الكارثية أصبحت الأرض مصدر قلق وخوف، لا مصدر فخر وعطاء، رغم ذلك، يظل المزارع رمزًا للصمود، مستمرًا في مواجهة التحديات، محافظًا على خبرته ومعرفته المتراكمة عبر الأجيال، واليوم المزارع بحاجة الي سياسات عادلة تنصف اليد التي تزرع، وتعيد للمزارع مكانته في قلب التنمية، فالزراعة لا تحيا بالماء وحدها، بل بالعدالة التي ترويها، وبالسياسات التي تحمي جذورها من الجفاف المزمن، هكذا فقط يمكن للأرض أن تُثمر من جديد، وللمزارع أن ينهض من بين شقوق الإهمال، كحبة قمحٍ تخترق القحط لتعلن أن الحياة لا تموت ما دامت في القلب بذرة أمل، ولم تؤثر الأزمات فقط على الإنتاج، بل على نفسية المزارع الذي تغني لها أحد ثنائي فرقة الحجاب بالجزيرة الحلاوين الراحل محمد إدريس التي توفي في يونيو 2025م، وهو صاحب أشهر أغنية على الإطلاق التي تغنى بها الشعب السوداني لأكثر من 50 عاما بجانب زميله الشاعر والملحن الحاج مصطفى وتقول الأغنية التي كنا نرددها أيام كنا في الجزيرة:
في الجزيرة نزرع قطنا نزرع نتيرب نحقق املنا
يا الشيخ أخوي نمشي الزراعة أصلو العمل واجبو السراعة
أبذل جهودك زيد في الشجاعة ده قطن بلدنا أجمل بضاعة
عاد الخريف واتراكم سحابو وكت المسور مرحب حبابو
كل مزارع شايل تيرابو يخدم بي همة يرفع سرابو
باكر نطرق نشلخ قطنا يخضر يورق ينور أملنا
شوفو كيف أخضر متني شايل ثمارو رفعة وطنا
المرحوم محمد إدريس عمل في الحقل الطبي في وظيفة التمريض وعمله في مجال الخياطة الي حين وفاته وقد كان مخلصا في عمله. (يتبع)

