حــياة السُــودانـييّن مُهمة
بقلم: واحة إبراهيم
كل البلد دارفور..
أثناء ثورة ديسمبر، صدحت حناجر المتظاهرين والمتظاهرات على اتساع البلاد بهتاف “يا عنصري ومغرور، كل البلد دارفور” في محاولة لتحدي العنصرية التي استخدمها النظام السابق لتأجيج الصراعات وتفريق الوحدة الوطنية، الهتاف في حد نفسه أعتبر لاحقاً رمزاً لرفض العنصرية عامة. لكن متى تتحول الرمزية إلى البنيوية في فترة الإنتقال وما بعدها، ومتى تصبح “كل البلد دارفور” فعلا؟!
حياة السود مهمة..
في الخامس والعشرين من شهر مايو المنصرم، شعر شرطي أبيض بالولايات المتحدة بضرورة الجثو على رقبة جورج فلويد، مُدعّماً بكل إمتيازاته المجتمعية والمؤسسية التي لم تقم بإيقافه حين قرر أخذ حياته، ولم يسعفه وعيه لتخيل عواقب وخيمة لفعلته أو حتى أن يتعرض لمساءلة شكلية من قبل وحدته الصغيرة بشرطة ولاية مينيسوتا. لأنه ببساطة، لا توجد عواقب وخيمة. خلّفت هذه الحادثة موجة غضب وتظاهرات عديدة ومستمرة ليومنا هذا من قبل مناصري حركة “حياة السود مهمة” وكل كارهي العنصرية بالولايات المتحدة. لكن المدهش هو مظاهر المناصرة والتعاضد التي انطلقت في مدن كثيرة حول العالم مثل باريس، ولندن، ومدريد، وبرلين، وميلبورن، وأكرا، إلى جانب موجة تنديد شرسة على منصات التواصل الإجتماعي كذلك.
لكن حملات مناصرة حركة “حياة السود مهمة” قوبلت في كثير من الدول بإنتقادات مفحمة على هيئة ماذا عن العنصرية في بلادنا؟ وهو سؤال غير سهل الإجابة، خصوصاً من مجموعة المشاهير الذين يطمحون للظهور العالمي ومجموعة الناشطين والناشطات الذين يعدون أنفسهم “مواطنين عالميين”. ومعلوم، المشاكل العالمية لا تستصحب معها المشاكل المحلية بل تجلس في عرشها العاجي الذي تنظفه وتلمعه هذه المجموعات.
وحياة السودانيين كذلك..
في الأول من يونيو السابق في الخرطوم، قامت سيدات من الاتحاد التعاوني النسوي متعدد الأغراض بعقد مؤتمر صحفي لتوضيح بعض النقاط على خلفية اجتماع مسبق بينهن وبين اللجنة العليا للطواريء، ممثلة في مجلس السيادة والوزارات المعنية. خلص الإجتماع إلى توفير دعم معين للأسر الفقيرة بأحياء مختلفة بالخرطوم بعد أن يتم حصرها من قبل العاملات بالاتحاد، ثم تنصلت الجهات الحكومية المعنية من هذا الاتفاق حتى بعد أن تم حصر آلاف الأسر وتعرض عضوات الاتحاد للاتهامات والملاسنات من بعض الأسر المحصورة. وهذا التنصل لم يكن فقط مع الاتحاد النسوي بل لاقت مجموعات قاعدية أخرى نفس التعامل، مثل لجان مقاومة أمبدة بأم درمان ومجموعة من اللجان بجنوب الخرطوم.
“ونؤكد أن مجلسكم السيادي هذا، ما هو إلا تتويج لثورتكم التي اتت لتحقيق شعارات المواطنة، والتعايش السلمي، والديموقراطية، والعدالة، والتنمية المتوازنة” ثم تواصل “ها أنا ذا، عائشة موسى السعيد، بت نصرة محمد إبراهيم، من كردفان، أقف لأمثل نساء بلادي قاطبة. وأعمل جاهدة لأمثل هذه الأمة التي رفعت رؤوسنا عالية بين الأمم، بثورة عظيمة وملهمة. وأخيرا أقول،” كان حلمًا أن نرى البدء وميلاد الطقوس”، وقد صار بكم. “
كانت هذه كلمات عائشة موسى يوم تنصيبها كعضوة بمجلس السيادة كأعلى سلطة تنفيذية وتشريفية بالبلاد. يوم قررت تمثيلها لجميع النساء السودانيات ويوم بدأت بإيلاء اهتمام عالٍ وعلني بالكثير من القضايا التي تخص النساء، إحداها البدء بإطلاق سراح المساجين بسجن الهدى بأم درمان عقب إعلان الطوارئ الصحية بالبلاد، بما فيهم مغتصبي الأطفال، ونسيان الثلاثمائة إمرأة بدار التائبات. وآخرها انكار دعوتها للسيدة عوضية كوكو للإجتماع في مكتبها وتصويرها كشخص أتت طالبة للمساعدة، ومنعها من تناول إسمها أو المجلس السيادي ككل في الإعلام حسبما صرحت بعض الصحف مدعية لعدم شرعية منصبها، رغم أن كوكو لديها ما يثبت عدم حل الإتحاد واستمرارها كرئيسة له.
العدالة..
بعد استمرار التظاهرات لأكثر من سبعة أشهر، تمكن الشعب السوداني من الوصول لحلول وسطى لمرحلة الإنتقال والشراكة مع الجانب العسكري للعبور بالبلاد لبر الأمان والممارسة الديموقراطية الحرة. ظنت مجموعة كبيرة من الشعب أن الإنتقال أمر لحظي أو ربما ينتهي بإنتهاء الثلاث سنين، وأن قيم ودواعي الثورة قد تم تحقيقها من (حرية، وسلام، وعدالة). لكن دعوني أحدثكم قليلا عن القيمة الثالثة.
إحدى ركائز مفهوم العدالة في الدولة هي قدرتها على صياغة وتحقيق عدالة إجتماعية حقيقية تقوم على توزيع متساو للفرص والموارد والإحتياجات الأساسية لكل مواطن، دون التحايل والاحتماء بمفاهيم تحجم من هذه الأهداف أو الإنحياز لمجموعة من المواطنين دون أخرى لأسباب متفرقة. والسودان كدولة إفريقية معتادة كسبت استقلالها في خمسينيات القرن العشرين، لم تنجو من لعنة عدم العدالة الإجتماعية. وجد سكانها أن عليهم أن يتعايشوا باستقلالية لكن تحت قيود معينة فرضها المستعمر الإنجليزي ومن سبقه، كحدود الدولة، أزمات الهوية، الأديان، بل وحتى اللغات، وممارسات مهينة للإنسان مثل تجارة الرق، وغيرها من العوامل التي رتبت الهرم الإجتماعي والحضري للمواطنين السودانيين ترتيباً دقيقاً ومُحكماً. ثم وقعنا في فخ النخب المتتابعة بنفس الأخطاء وكأنما شخص يدوس على زر إعادة بدء الللعبة كل عدة أعوام فيعيد التاريخ نفسه بكل كبرياء وتخبط.
فلويد كان أخاً وأبا محباً، وصديقاً وديعاَ للجميع، لكنه أسود، وكلفه هذا حياته. مثلما يكلف امتلاك بعض الصفات أو الإنتماءات حياة شريحة ضخمة من الشعب السوداني، أو فقط استمرار وجودهم في أسفل الهرم، ثم يقضون معظم أو كل حياتهم يحاولون صنع حياة كريمة.
عاملات القطاع غير الرسمي غير المرئيات من بائعات المشروبات والأطعمة وعاملات المصانع والمنازل وبائعات الخمور -لو ما فيها إساءة- اللاتي تحدث عنهم الإتحاد في بيانه لسن وليدات الصدفة. هن نساء في المعظم ينحدرن من مجموعات إثنية معينة عانت ما عانت من تهميش وتضييق وفقر وجهل وصراعات منذ الإستقلال وإلى يومنا هذا. أتين إلى المدن نازحات من حروب وظروف اقتصادية صعبة، بعد أن فقدن أزواجهن أو فقط تخلّوا عنهن وعن مسؤولياتهم الأسرية وبالتالي أصبح حمل الأسرة يقع على أكتافهن وحدهن. وانضمت إليهن مجموعات لاحقة من اللاجئات والمهاجرات من دول الجوار، لتعانين من نفس التمييز وربما أكثر.
هل اهتم حراس النسوية وحقوق الإنسان بضرورة الضغط على السلطات لتنفيذ الوعود المقصودة؟ قلة قليلة، لكن بالطبع الأكثر كانوا يحاولون تبرير ما صدر من عضوة المجلس السيادي أو تأكيد الخبر حتى لا يدخلوا في دوامة بكائية بسبب سقوط رمز ثوري جديد، أو ربما لأن العقلية الطبقية المشتركة تستغرب نفسها حين ترى نتائجها مستهجنة ومنتقدة. لكن النساء الجائعات وأسرهن لسن على نفس القدر من الأهمية.
الفقر كقصيدة رومانسية..
تغنى الشعراء وأهل الفن لهذه المجموعات من السيدات ومجّدهن الساسة والنشطاء، تحديداً بائعات المشروبات أو كما يسمين بالعامية (ستات الشاي)، ونراهن في أركان قصية بمهرجانات الشركات الغذائية وسطوحات المراكز الثقافية الأجنبية والمحلية في الليالي الاحتفالية، يصنعن المشروبات بابتساماتهن والزلابيا بضميرهن الحي.
لكن مثلا، في العام 2018 تم منع ستات الشاي من العمل بشارع النيل الخرطوم على امتداده ولعدة أشهر، ومرة أخرى، لم يصنع الخبر أي ضجة ملاحظة في منصات التواصل الإجتماعي ولا في صفحات الصحف اليومية، لا من النشطاء السياسيين والإجتماعيين ولا من المجموعات الحقوقية، لماذا؟ لأنهن ستات شاي، يصلحن للرمسنة والمزايدات الإجتماعية والتأطير الجنسي. لكنهن لسن بموضوع جيد في وسط مجموعة النشطاء أبناء الطبقة الوسطى والأحياء الراقية بالعاصمة، مواطنات مستوى ثانٍ، فقيرات يصرفن على محليات الولايات أثناء محاولاتهن لتربية أبنائهن وإكمال تعليمهم ليتحصلوا على مستقبل أفضل، أو كما يأملن.
هل الحكومة الإنتقالية، طبقية؟!
الحكومة الإنقالية بالسودان الآن يشغلها مجموعة الساسة والأكاديميين والمهنيين والنشطاء الذين شغلوا مؤسسات المجتمع المدني والعمل العام على طول العقود السابقة، وليس صعباً على الجميع استنباط أوجه الشبه بين الحكومة الجديدة والسابقة لأنه -مفاجأة- الشعب السوداني ليس منفصل من بعضه، والحاضنة المجتمعية العامة للقيم هي نفسها بغض النظر عن الخلفيات السياسية والفكرية. وممارسات النظام السابق كان يمكن أن تمارسها أي مجموعة تتحصل على نفس القوة والموارد ومقدار جيد من الذكاء والعملية. لكن دعونا سريعاً نمر على بعض الأمثلة.
في نوفمبر من العام السابق، قامت مجموعة من طلاب جامعة زالنجي بالاعتصام لعدة أشهر أمام مباني وزارة التعليم العالي مطالبين بمقابلة وزيرة التعليم العالي والرد على مطالبهم المرفوعة منذ النظام السابق. ماذا كانت تعليقات السلطات والنشطاء؟ “مجموعات خفية تقوم بتمويل الاعتصام! هؤلاء ليسوا طلاب حقيقيين يتركون مقاعد الدراسة للاحتجاج بالخرطوم!!” وطبعاً، “هنالك من يحاول إزعاج الحكومة الجديدة!” و “هذه خلايا عبد الواحد بالعاصمة تحاول أن تفشل الحكومة الإنتقالية!!” مع استغراب أن تقوم مجموعة طلاب كهذه بالإعتصام لأشهر وكأنها ليست وسيلة احتجاج مشروعة للكل، بل تمت محاولة فض الإعتصام بالقوة عدة مرات من قبل الشرطة على مرأى ومسمع من الجميع دون استهجان أو تنديد. ولم يرد الخبر سوى على بعض المنصات الإعلامية المهتمة بمواضيع غرب السودان، وعلى صفحات مجموعة بسيطة من النشطاء.
في منتصف أبريل السابق، قامت وزارة التجارة والصناعة بتدشين برنامج سلعتي للمواد الغذائية الذي يهدف في مضمونه لمساعدة المواطنين للتحصل على مجموع 11 سلعة أساسية عبر مراكز البيع المخفض لطيلة الفترة الإنتقالية. وحمداً لله، البرنامج يستهدف جميع ولايات السودان وليست الخرطوم فقط. لكن كيف يتم الاشتراك في هذا البرنامج؟ عن طريق بطاقات الرقم الوطني. نسيت الحكومة الإنتقالية في لفتة بارعة أنه ليس جميع المواطنين بالسودان لديهم أرقام وطنية وأن كل فكرة التسجيل المدني كانت إحدى وسائل النظام السابق لتقنين العنصرية واستبعاد مجموعات بعينها من حقوقها المدنية، كما فقد الكثير من السودانيين حق التسجيل المدني بسبب وجودهم في مناطق حروب لسنوات عديدة ومستمرة. ولم يتم تبديل طريقة الإشتراك في البرنامج ولا إيجاد حلول بديلة لمن لا يحملون أرقاماً وطنية أو أي أوراق ثبوتية إلى يومنا هذا.
انتقال أوراق ووثائق..
يضحك النشطاء على المجموعات البيضاء المتطرفة التي طالبت برجوع الحياة إلى طبيعتها في أمريكا لكي يذهبوا إلى صوالين الحلاقة ويفتحوا الأسواق. أليست هذه نفس مجموعات الطبقة الوسطى والعليا السودانية التي ترى الحجر العام وسيلة تحكم سياسية وضرورة فكه للعودة إلى أعمالهم ونزه نهاية الأسبوع في المطاعم والنوادي وشارع النيل؟ لا يهم كم مهنة بالقطاع غير الرسمي قد تعطلت أو كم شخص فقد وظيفته بسبب الكورونا؟ لا يهم عاملات المنازل اللاتي تم طردهن دون دفع أجورهن ولا يهم كم المستشفيات العامة التي أغلقت أبوابها في وجه المرضى من ذوي الدخول المحدودة والذين لا يستطيعون دفع رسوم المستشفيات الخاصة. كما لا يهم إن كانت القوات تتعامل بعنف مع المجموعات التي تكسر أوامر حظر التجوال لكسب بعض الرزق. ولا يهم تنصل الحكومة من وعودها التي في حقيقة الأمر اقتصرت على ولاية الخرطوم. وكأن بقية ولايات السودان ليس بها فقراء.
الانتقال المقصود في الأوراق والوثائق ومنصات المثقفين ليس فقط انتقال سياسي، بل تأسيس للانتقال لدولة ديموقراطية ومستقلة ذات تأسيس حقيقي وتطبيق عملي لقيم المواطنة، وسلام محقق ومحفوظ يعمل عليه الجميع بحس وطني صادق لا يقتصر على الاتفاقيات الموقعة. دولة حريات وحقوق غير مُدَّعَية، تنظر لقيمة إنسان الأطراف والولايات كقيمة إنسان الوسط ومواطني الطبقة الوسطى.
إلى من؟
إلى فلويد: أرقد بسلام.
إلى مصوري فيديو قتل فلويد: شكراً!
إلى النشطاء والناشطات: جورج فوليد موجود بكل ولايات السودان. ومناصرة قضايا السود بأمريكا مهمة، لأن الحقوق لا تُجزأ وقيم الإنسانية المزعومة عابرة للقارات، هذه جيد، لكن الإنفصال من الواقع لن يظهرنا بشكل رائع ولن يختصر علينا الطريق محلياً ولن يفيد مواطني هذه الدولة في شيء. مشاكلنا عميقة وتحتاج قوة حقيقية لنقاشها ومواجهتها ومحاولة تفتيتها. خطاب التيار النضالي إن لم يستصحب مشاكل جميع المجموعات السكانية ويمثّلهم، لا يعول عليه! وهذا يعني عدم الإعتذار والتبرير لممارسي العنصرية والطبقية ومصدري خطاب الكراهية في الدوائر العامة والخاصة، ومساءلة أنفسنا والمجتمع ومؤسسات الدولة، المؤسسات أولاً وأخيراً.
إلى الحكومة الإنتقالية: يبدو أن كلمة كوز بدأت تخرج من سياقها التاريخي لتشمل أي شخص يمارس ممارسات اشتهر بها كيزان النظام السابق. من بينها وأهمها الظلم. والظلم ظلمات!
إلى المهمشين والفقراء والذين يعانون اليوم وغدا وفي كل يوم: حياتكم مهمة، حتى وإن لم ترد مشاكلكم في الوسائل الإعلامية ويشاهدها العالم كله، وسينتهي كل شي، يوما ما.
واحة إبراهيم، مهتمة بقضايا النوع الإجتماعي والعدالة”
يونيو، 2020
waha.ibrahim@outlook.com