المناهج الدراسية وسياسة الإلهاء
بقلم : لمياء الجيلي
” أن عنصرًا أساسياً في التحكم الاجتماعي هو إلهاء انتباه العامة للقضايا والتغييرات الاجتماعية الهامة التي تحددها النخب السياسية والاقتصادية، من خلال تصدير كم كبير من الإلهاءات والمعلومات غير ذات القيمة، وتتضمن تلك الاستراتيجية أيضا منع العامة من الاطلاع والمعرفة الأساسية بمجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس والعلوم البيولوجية.” (نعوم تشومسكي)
سياسة الإلهاء والتشتيت هي السياسة التي مارستها حكومة الفترة الانتقالية مع قوى الثورة التي آتت بها الى سدة الحكم بعد أن مُهرت دماء غالية ودُفع ثمن من عصب ونبض القوى الثورية ومن وجع وآلام وآهات أسر شهداء ثورة ديسمبر المجيدة، واسر المفقودين.. ومن آنين وعذابات الجرحى والمصابين.. فخلال الأسبوع المنصرم تمت أكبر عملية إلهاء وتشتيت بامتياز وحققت كثير من النجاحات الآنية، والتي قد نقلب على صانعيها (وبالاً وارتباكاً) فيعودون ادراجهم (محسورين) و (مكلومين). ففي اليوم الذي تم فيه توقيع اعلان ابراهام للتطبيع بين السودان وإسرائيل، ابان زيارة وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين إلى السودان في السادس من يناير الجاري، أصدر رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك قرار بإيقاف العمل في المناهج الدراسية، والتي يعمل عليها لسنوات المركز القومي للمناهج والبحث التربوي برئاسة الدكتور عمر القراى.. صدر هذا القرار في توقيت، لا اعتقد أنه مصادفة أو أنه كان أكثر القضايا الحاحاً في ذلك الوقت، فالحملة التي شنتها القوى الظلامية، وأصحاب الأجندة الخفية، والقوى الرافضة للتغيير وغيرها، بدأت منذ تعيين دكتور القراى في أكتوبر من العام 2019.. هذه الحملة استمرت صعوداً وهبوطاً لأكثر من عام فلماذا صدر هذا القرار في هذا التوقيت بالذات؟
قرار رئيس الوزراء، والذي اعتبره البعض ردة عن مبادئ وأهداف ثورة ديسمبر المجيدة، شغل الرأي العام وصب ماء بادر في صدور المتشددين والرافضين لتعديل المناهج، وهم في الغالب من الرافضين بشدة للتطبيع مع دولة إسرائيل، كما أن توقيت هذا القرار قلل درجة الحرج لمن يرفضون التطبيع من شركاء الفترة الانتقالية من زوايا مختلفة وبناءً على حيثيات وأسباب وأيدولوجيات خاصة بهم. وبالفعل فرح المتشددون وابتهلت قٌوى الظلام والقٌوى الرجعية وبقايا النظام البائد وكبرت وهللت، بل اعتبرت قرار رئيس الوزراء انتصاراً لها وهزيمة للتقدميين ودعاة التغيير وتراجع عن مسيرة ثورة ديسمبر المجيدة. فصمت الجميع عن الكلام المباح، ولم يبكي الشيوخ على منابر المساجد ولم يتم تداول الخطط التي تجيش العاطفة ضد عدو الأمة والملة المارقة، علي حسب ما يرددون من مقولات… لم ينتقد علماء السلطان في أي من خطب الجمعة الماضية اتفاقية التطبيع، ولم تخرج المسيرات الرافضة لهذا الاتفاق.. ولم تصدر البيانات التكفيرية أو الفتاوى التي حرمت صورة في كتاب ولم يرجف لها جفن لتحرم التطبيع مع عدو تاريخي لها…. صمت الجميع والصمت علامة الرضى والقبول بإعلان الحكومة التوقيع على اتفاقيات ابراهام، والتي تعتبر بمثابة خارطة طريق للتطبيع الدبلوماسي والسياسي والثقافي والعلمي والاقتصادي بين السودان وإسرائيل..
ظلت حكومة الفترة الانتقالية تنتهج استراتيجيات متعددة تساهم في زيادة حيرة المواطن وإرباك المتابعين والمراقبين للمشهد السياسي.. فسياسة الإرباك والارتباك التي تمارسها الحكومة في العديد من القضايا تعيق أي تقدم وتجعل دائرة اتخاذ القرار ضيقة جدا، سواءً كان هذا القرار سيأسى او اقتصادي أو أي قرار متعلق بمصالح الشعب. بسياستها هذه تبعد أصحاب المصلحة والفاعلين من المشهد السياسي بصمت وبهدوء شديدين، مما يعيق أي تقدم ويعيد البلاد الى المربع الأول أو نقطة الصفر، وقد يدخلها في نفق مظلم يصعب الخروج منه.
الطريقة التي تم بها التعامل مع ملف المناهج الدراسية ومحاولة صرف انتباه المجتمع السوداني عن التوقيع على اعلان التطبيع، لا تتماشى مع مبادى وروح الثورة السودانية، وتتناسى وعن عمد حق المواطنين وشركاء الفترة الانتقالية في المشاركة في القرارات المصيرية التي تمس حياتهم وتؤثر على مصالحهم ومصالح أبنائهم ومستقبلهم. كما تجاهلت حق المجتمع في المعرفة والحصول على المعلومات.. هذه التجربة كشفت مدى انقسام القوى الفاعلة والقوى التي تدير الشأن السياسي ومصالح العباد والبلاد. كما توضح بجلاء أن أولويات الحكومة لا تتماشى مع أولويات الشعب ومطالب الثورة .. وتؤكد أن الحكومة في (وادي) والشعب في (وادي آخر).
جذب قرار رئيس الوزراء وما تلاه من ردود فعل متباينة، انتباه الاعلام، وأصبح حديث المجتمع.. وحوار المجالس وشغلها الشاغل… وفي المقابل ومن وراء ستار وعلى استحياء وخجل احمرت له وجنتي حكومة الفترة الانتقالية وقع إنابة عن حكومة السودان وزير العدل الدكتور نصر الدين عبد الباري اعلان التطبيع مع إسرائيل من داخل مبنى السفارة الأمريكية في الخرطوم. وليس من داخل أروقة وزارة العدل أو وزارة الخارجية أو حتى مكتب رئيس الوزراء، والذي كان مشغولاً في تلك الأثناء في قراءة استقالة دكتور القراى من منصبه كمدير للمركز القومي للمناهج، ومتابعة تصريحات وزير التربية والتعليم الدكتور محمد علي التوم.. كل هذه الحيثيات وغيرها تؤكد أن قرار تجميد عمل المناهج في هذا التوقيت لم يكن (صدفة) وأن التطبيع مع إسرائيل كان عن (عرفة).
للأسف حتى وسائل الاعلام والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي (بلعت الطعم)، وركزت على قضية المناهج واستقالة مديرها. وتناست ما يدار خلف الكواليس من تطبيع واتفاقات اقتصادية وتقسيم للموارد من خلف ستار ايضاً وموازنة غير متزنة وغير واقعية ولديها أثار كارثية على الشعب السوداني وزيادات (خرافية) وغير (محتملة) في أسعار الكهرباء والوقود والخبز، واتجاه لتعويم الجنيه السوداني وتوحيد سعر الصرف والقائمة تطول ولا عزاء للمواطن.