الخميس, ديسمبر 26, 2024
تقاريرمجتمع

حكايات من جنوب كردفان.. شخصيات تعشق السلام والمساواة

جنوب كردفان: صفية الصديق

إن الأزمات والحروب دائماً ما تصنع مساحات أرحب للسلام، تضيق مساحات الأمان بالناس لتتسع مساحات تقبلهم للآخر لاحقاً، يمضغون الضغائن والموت ليتوحدوا، فقدوا كل ثروتهم إبّان الحرب لكن لم يفقدوا إيمانهم بالسلام وظلوا يعملون لأجل ذلك اليوم في أشد أوقات القهر، تحملوا مصادرة ونهب ممتلكاتهم، تحملوا الاعتقالات والتهديدات لكنهم لم يتحملوا أن يتمكن منهم من يفرقهم فهم يؤمنون بأنهم عرباً ونوبة يشكلون خارطة الجبال.

رباعي الحب والسلام

اجتمعوا الأربعة على أهداف كانوا يعملون لأجلها منفردين، الأمير عبد الرحيم محمد تية، أمير إمارة النوبة هيبان، العمدة عثمان مريمي أحد عمد قبيلة الحوازمة، العمدة عبد الرحمن إدريس عمدة منطقة التقاطع شمال كادقلي عن أحد (خشم بيوت الحوازمة)، وصفيرة محمد يعقوب من (النوبة كيقا)، وتلكم المرأة التي تساوي مملكة لوحدها. قصتهم الثلاثة وصفيرة ألهمت كثيرين ليعلنوا حربهم على التعصب القبلي ويقولون نعم للإنسانية.

قيم التسامح والتنوع

بدأت قصة الأمير محمد تية والعمدة عثمان مريمي منذ أكثر من (15) عاماً أي قبل الحرب، فقد ظل يعمل هذا الثنائي في تناغم كبير وعن قصد ليثبتوا للجميع انتماءهم لأرض النوبة ولا شيء غيرها، وحتى يعززوا ذلك تزوج الأمير تية ابنة العمدة مريمي لينجبوا أطفالاً يعبرون عن التنوع في جبال النوبة كما يروي الأمير تية، الذي قال إن إدارة التنوع لا بدَّ أن تتم عن قصد وأولها هو تحطيم قيود النسب فإن جميعنا ينادي بأن لا فرق بين العرب والنوبة، إلا أن هذه الشعارات تتحطم فور أن يطلب أحد الزواج من ابن أو ابنة الآخر.

وأضاف لـ (مدنية نيوز) أمس الأول: “قررنا أنا والعمدة مريمي العودة لتقليدنا القديم القائم على عدم التمييز، لم يضطر العمدة عثمان لإجبار ابنته على الزواج مني بل كان توافقياً وأنجبت أجمل أطفال ممزوجين بقيم التسامح وقبول الآخر”.

وتابع أن قصتهم لم تقف هنا، فقد واصلوا سعيهم لنقل مجتمعهم من القبلية لرحاب قبول الآخر.

ندوات التعايش

وفي أغسطس الفائت وبعد الخلافات المتكررة بين مجموعات العرب والنوبة والتي فقد فيها الطرفان أرواحاً عزيزة، ابتدر الثنائي مبادرة عبارة عن ندوات للتعايش السلمي وقبول الآخر بدأوها بالأحياء التي يسكنها العرب (الفُرقان) وانتقلوا لبقية الأحياء يبشرون بقيم التسامح وأهمية إدارة التنوع في هذه الفترة والسلام الاجتماعي وينشرون إرث جبال النوبة في التعايش بين القبائل ويدعون كل القبائل والمكونات بجنوب كردفان لإحياء التحالفات القبلية التي كانت تساهم بشكل أساسي في قضايا التعايش وقبول الآخر، يرسمون ميثاقاً لإيقاف العدائيات وينقلون إرثهم في كيفية التعامل معها.

العمدة عبد الرحمن إدريس

نصف قلبي في الضفة الأخرى

تقاطيع وجه العمدة عبد الرحمن إدريس عمدة أحد (خشم بيوت الحوازمة) تحكي عن سلام ومودة قبل أن يتحدث، ظل شغله الشاغل إيقاف العدائيات وتقديم الجناة للمحاكمة، لا ينام وهمه كله تحقيق السلام في منطقته التي شهدت نزاعات متكررة في الفترة الفائتة، يروي قصته: “نشأت في منطقتي هذه، لا نعرف القبائل إلا عن طريق النظارات والعموديات التي كان دورها فقط تنظيم حياة الناس وتعزيز قيم التنوع والتعدد وإدارة شؤون الناس، نرقص (الكرنق) مع النوبة ويرقصون معنا (النقارة)، لا نعرف القتال إلا في حلبات المصارعة، وجداننا واحد نستمع لأغاني جبال النوبة، نأكل ونشرب ونرعى ونزرع في ذات الأماكن، نعرف حدود بعضنا ولا نتعداها”.

ومضى العمدة عبد الرحمن للقول إن الحياة انقسمت عندما اندلعت الحرب والتي نسميها (الكتمة) تفرقنا جميعاً، أهلي وأصدقائي من النوبة بين يوم وليلة أصبحوا مقسمين بين الجنوب وهنا وأصبحوا في نظر من يكرهون الحياة مجرمين لا لشيء سوى لانتمائهم لقبيلة! وأضاف: “لقُربي من كل مكونات المنطقة اتهموني بالانتماء لمجموعة سياسية كانوا يرون أن الانتماء إليها ثمنه الموت فقدت كل ممتلكاتي، وقد كنت ثرياً مثلي مثل أغلب أهالي الجبال، صرت بلا دار ولا مال بأمر المؤتمر الوطني؛ كل ذلك لم يُثنِني عن التواصل مع أهلي فلي أصدقاء وأهل تربطني بهم علاقات دم من النوبة نزحوا لمعسكر (أبو قناية) في الجنوب إذ لا يمكنني أن أترك نصف قلبي وتاريخي في الضفة الأخرى دون أن أراهم مرة أخرى”.

صفيرة

لقاء الأرواح

ويواصل: “حزمت عتادي برفقة بعض رجال القبيلة واتجهنا في 2013 صوب المعسكر، وقررنا أن نلقى بقايا أرواحنا في الضفة الأخرى وإن كان الثمن دمنا، فاوضنا وتذللنا للأجهزة الأمنية والعسكرية الموجودة في الحدود، ووصفونا بالمجانين وحملونا مسؤولية أرواحنا؛ كانت لحظات لقائنا بصديقات أمي وشركائي في الزراعة وجيراننا ومنظر الأطفال يركضون ليعانقوننا لحظات هي الجنة، بكينا بحرقة لأننا لم نعد في ذات الرقعة ولا نعرف إلامَ سيصير بنا الحال! عدت وسخرت كل جهدي للالتزام بقيم التسامح.

تشارك صفيرة محمد ذات التاريخ مع العمدة عبد الرحمن؛ فقد أسست لعلاقات قوية مع القبائل العربية لقناعتها بأنهم لا يمكن أن يعيشوا دون قبول الآخر، تدعم أي نوع من العلاقات التي تجمع النوبة والعرب، تسعى دائماً لخلق علاقات مع كل مكونات المجتمع حتى المكونات الرسمية لتضمن أن يعيش أهلها بسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *