دستور يا أسياد
بقلم: حيدر المكاشفي
كلمة دستور تحمل دلالات ومعانٍ مختلفة، منها أن دَستور -بالدال المفتوحة- تعني عند العامة تلك الظاهرة الشيطانية المعروفة شعبياً باسم (الظار)، ولك أن تقول (الزار)، وعند ممارسة هذا الطقس في حفل صاخب وماجن تردد مايسترو الجلسة (شيخة) تَدّعي أنها موصولة بالأبالسة والجن والعفاريت عبارة، (دستور يا أسياد) أو (دستور يا أولاد ماما)، والأسياد أيها السادة هم أولئك القوم غير المرئيين من المردة والشياطين، ونحمد الله أن هذا الطقس الشعبي الإبليسي الضار عند نسائنا قد انحسر بدرجة كبيرة.
ودُستور -بضم الدال- هي كلمة فارسية الأصل، تشير إلى القانون الأعلى والأسمى للدولة، إذ أنه يضم مجموعة القواعد التي تُحدد شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، وتضمن للمواطنين حقوقهم الأساسية، وتحدد السلطات العامة وتبين اختصاص كُلٍ منها وعلاقات بعضها ببعض، وأغلب دساتير الدول بهذا المعنى تجيزها سلطات تأسيسية أو جمعيات تأسيسية تمثل الشعب، وهناك أيضاً (دساتير) تخص العاملين في مهنة النجارة ويقصدون بها تلك الآلات الحديدية التي يستعينون بها على تثبيت الأبواب والشبابيك الجديدة في الجدران، وكذلك هناك استعمال عامي آخر محير لكلمة دستور، كأن يقول أحدهم مغاضباً من يتجرأ ويقتحم عليه خلوته أو مكان خاص به دون مقدمات (شنو داخل توووش كدا بدون إحم ولا دستور).
وبعد اأن عرضنا لمجموعة من (الدساتير) المختلفة، حق لنا أن نتساءل في أي خانة دستور من الدساتير المشار إليها يُمكن إدراج دستورنا الحالي المسمى (الوثيقة الدستورية)، الظن عندي أن (وثيقتنا الدستورية) أقرب لأن تكون من عينة (دساتير الاسياد) أو (دساتير تثبيت الشبابيك والأبواب)، أو دساتير (الاقتحام المفاجئ)، حيث لا حظ لها بتاتاً أن تكون ضمن الدساتير المصنفة على أنها قانون أعلى وأسمى، فما شهدته هذه الوثيقة من هلهلة وفتح وغلق وإضافات وحذف وتجاوز وتعدٍ، حتى صارت مثل صنم العجوة الذي كان يُعبد على أيام الجاهلية، كلما جاع صاحبه قضم منه قضمة إلى أن يأتي عليه تماماُ، ولذلك وبسبب هذه الخرمجة خرجت وثيقتنا خروجاً بلا عودة من زمرة الدساتير المحترمة للبلدان المحترمة.
وعدم احترام الدساتير خصيصة أو قل عقدة قديمة عندنا في السودان، إذ لم تتوفر البلاد حتى الآن على دُستور دائمٍ لها رغم مرور 64 سنة على الاستقلال، كلما وُضع دستورٌ خرقوه إما بانقلابٍ أو رموه في سلة المهملات واستبدلوه بآخر حتى بلغت دساتيرنا الملغاة ستة أو تزيد، واستمر عدم احترامنا للدساتير إلى يوم الوثيقة هذا. صحيح أن الدُستور ليس نصا مقدساً، ولكن الصحيح أيضاً أنه ليس منديل ورق تنظف به أنفك أو تمسح به وجهك ثم تُلق به على الأرض بعد الاستعمال، ونصوص الدُستور لا توضع للعبث بها، فالدُستور عقدٌ اجتماعي ملزم لمدى طويل، وفي حالتنا هذه تكون الوثيقة الدُستورية مُلزمة من لحظة توقيعها وإلى انتهاء الفترة الانتقالية، فهي جوهر نظام الحكم، وكل انتهاك للوثيقة هو انقلاب على نظام الحكم، وانقلابٌ على الشعب، ونزعٌ لشرعية السلطة، وجعلها محض حالة تسلط، فتعديل الدُستور حدثٌ كبير وجلل في أي بلد محترم ويحترم مواطنيه، ولا بد أن تتوافر له ضرورات ومبررات كبيرة وملحة لإجراء أية تعديلات عليه وبتوافق واسع، وإلا فإن أي تعديل يطرأ على الدُستور يكون محل شبهات وشكوك، ولهذا نثمن عالياً الخطوة التي أقدمت عليها كونفدرالية منظمات المجتمع المدني، بإيداعها منضدة المحكمة الدستورية طعناً ضد قرار مجلسي السيادة والوزراء القاضي بتعديل الوثيقة الدستورية، لتضمين المادة 80 المنشئة لمجلس شركاء الحكم المثير للشنشنات والشبهات، وهي خطوة ضرورية ولازمة لوضع حد لهذا العبث ولو من باب الطرق على الأمر ولفت الانتباه إليه.