كادقلي من (الكتمة) إلى (النسمة).. مداواة جراح الحرب بالثقافة
كادقلي: نصر الدين عبد القادر
ليس ثمة شيء أكثرُ سوءاً من مرارات الحرب وأهوالها.. ففي عروس الجبال مدينة كادقلي حيثما يكون المرء يرى جبالًا خضراء تحيط بالمدينة.. وكأنها فردوسٌ أرضيٌّ أهدته السماء إلى أهلها، لكن روح الآدمية فيهم جرَّتهم إلى ذاكرة النزول من النعيم إلى الجحيم، ومن (النسمة) إلى (الكتمة)، فدوت المدافع، وصمتت العصافير، وهاجرت طيور البجع التي كانت تشكل لوحاتٍ زاهيةً في سماء المدينة ليلاً.
جاءت مبادرة دعم الحركة الثقافية والفكرية بكادقلي، والتي تداعى لها شباب من أنحاء السودان المختلفة، وعدد كبير من المراكز الثقافية بالعاصمة الخرطوم في خطوة إلى نقل الفعل الثقافي من المركزية إلى فضاءات أكثر رحابة لمحو آثار الحرب، وترسيخ قيم التعدد والتنوع والمحبة والسلام وعودة العصافير لشدوها.. ليكون مكان (الكتمة) (نسمة).. ومكان الطلقة عصفورة.. تحلق حول نافورة.. وتمازح شُفَّعَ الروضة، كما يقول محجوب شريف.
رمزية التاريخ
اختار شباب المبادرة يوم السادس من يونيو يوماً لانطلاق فعالياتها.. وهو يوم له دلالته.. حيث يصادف مرور عشر سنوات على تناثر أشلاء جثث الأطفال وبائعات الشاي والقهوة والروب والمدمس والتسالي وسط المدينة وفي سوقها الكبير، بل حتى مسجدها وكنيستها بعد تجدد الحرب – فيما يعرف بـ (الكتمة) – بين شريكي الحكومة آنذاك المؤتمر الوطني بقيادة أحمد هارون.. والحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو عقب انتخابات 2011م.
استجابة الحكومة
وفي ندم على ما مضى وأمل بما هو آتٍ افتتح أمين الحكومة بولاية جنوب كردفان موسى جبر، فعاليات المبادرة من مركز الشباب الذي حشد فيه الوالي الأسبق أحمد هارون مناصريه يبشرهم بجنة عرضها السموات والأرض ليجاهدوا إخوة لهم وأبناء عمومة.
قال ممثل الحكومة: (أردنا بهذا الحراك تحويل تاريخ الذكرى الأليمة من “كتمة إلى نسمة”، وأنَّ أبناء كادقلي وإخوتهم من أنحاء السودان المختلفة قدموا نموذجاً من الوعي الفكري والثقافي لمحو الذكرى السيئة بمواقف مشرفة، وآن الأوان لتوضع البندقية ويحمل القلم والمعول لبناء الوطن).
ولم يكتفِ أمين الحكومة بذلك، بل ذهب إلى تحقيق حلم المبادرة ووعد بتوفير موقع استراتيجي لتكوين مكتبة عامة للقراءة والاطلاع، مصحوبة بمسرح و(كافيه) للأنشطة المصاحبة وعرض مشروع المبادرة على جميع المجتمعات المحلية والسعي إلى تعميمها على كل المحليات بالولاية.
ولأن الثقافة هي خير مُتنَفس لزفر مرارات الحرب وويلاتها يرى موسى جبر، أن الفعل الثقافي راتقٌ للنسيج الاجتماعي ومعزز للتعايش السلمي لذلك دعا أطراف التفاوض الحكومي والحركة الشعبية – قطاع الشمال بجوبا، لمحو آثار (الكتمة) بالتوقيع النهائي على السلام، لتجاوز مرارة السنوات الماضية.
ومن ناحية أخرى تُؤَمِّلُ مديرة قطاع الثقافة والإعلام والشباب والرياضة بوزارة التربية والتوجيه بولاية جنوب كردفان، ست الكل محمد أحمد، في أن تكون المبادرة معيناً لمسح الصورة الذهنية الكئيبة لدى المواطنين بالولاية، مناديةً بمزيدٍ من مثل هذه المبادرات لدفع الحركة الثقافية والفكرية، وقيادة التحول لمفاهيم السلام والبناء الوطني.
كادوقلي عاصمة للثقافة والتعايش السلمي
الناس هنالك يصنعون الحب بقلوبهم الطيبة، وكرمهم الذي ينساب كما النيل عندما يفيض، وكلهم ينشدون السلام، الأطفال في ملابس المدرسة، وطلاب المرحلة الثانوية بمرايلهم الرمادية، و(الحكامات وستات الشاي) رأينا في فرحتهم بنا، وبريق أعينهم يقولون في صمتٍ: تعالوا إلينا بالسلام.. لا نريد أن نسمع أصوات الرصاص مرة أخرى.. (تعبنا).
الكبار والصغار، النوبة والعرب، وهم يأكلون معًا ويحتسون الشاي معًا.. ويلعبون الكرة معًا.. ويمزحون ويمرحون.. ويبكون من المأساة معًا.. كل ذلك يشير إلى أن الحرب قد أرهقتهم ووأدت أحلامهم.. ولذلك كله أصدر أعضاء المبادرة بياناً أسموه بيان كادقلي الثقافي جاء فيه ما يلي: “نحن الموقعين أدناه من كافة أنحاء السودان، نصدر البيان الثقافي التالي من عروس الجبال كادقلي، والذي يحتوي علي النقاط التالية والتي نرجو أن تعمم على كل ولايات السودان:
أولًا: الثقافة أولًا.
ثانيًا: إن الشباب المستنير هو أساس التغيير الإيجابي للمجتمعات.
ثالثًا: إن ثورة ديسمبر المجيد كانت حراكًا ثقافيًا نبتت في العقل الجمعي للشعب السوداني، وينبغي أن تكون ملهمة لما يجب أن يكون عليه السودان.
رابعًا: تعميم فكرة المكتبات العامة ودور السينما والمسرح ودور النشر والطباعة على كافة ولايات السودان ومحلياتها وقراها.
خامسًا: نقترح عاصمة ولاية جنوب كردفان مدينة كادقلي أن تكون عاصمة للثقافة والسلام والتعايش في السودان.
سادسًا: توطيد وتمتين قيم الشراكة المبنية على الاحترام المتبادل بين الجهات الرسمية والمجتمع المدني والمجتمع الثقافي من أجل توحيد كافة الجهود لخدمة المجتمع السوداني.
صدر البيان بمدينة كادقلي في يوم الخميس، الثامن من يونيو من العام 2021م”.
هذا البيان الذي تلاه مازن الأمين، وهو صاحب فكرة المبادرة كان بمثابة منفستو ثقافي يجب على الدولة والمجتمع تنزيله على أرض الواقع بصورة عاجلة لدفع السلام.. وإعادة ريادة دور الثقافة في النهوض بالأمم .. لأن تحضر أية أمة، وتقدمها، إنما يقاس بمدى اهتمامها بالثقاقة. وعليه فإن التفاؤل بالفعل الثقافي سيحول مدينة كادقلي من ذاكرة (الكتمة) إلى جمال (النسمة) المستمر.