رغم مرارات الحرب.. ذكريات الحب والسلام بمعسكرات النزوح في دارفور
دارفور: صفية الصديق
أن تدخل معسكرات النازحين في السودان وأنتَ أو أنتِ تحمل/ين ملامح لرمزية من قتلوا أهل النازحين وشردوهم وسلبوهم أرضهم وذاكرتهم، فهو أمرٌ عظيم!! عظيم عليهم لأنك تذكرهم بتاريخ موت وتنعش ذاكرة الدمار والخراب عندهم، وعظيم عليك لأن تحس بأنك حامل لهذه الرمزية، للحظة تتمنى أن تكون ليس أنت!!.. بالتأكيد فإن مصيبتك أنت أخفّ وطأة ولا تساوي شيئاً.. لكن سرعان ما تتلاشى هذه الريبة عندما يعرفون أنك سوداني الانتماء و(صافي النية) تسمعهم ينادونك بـ (السلَنقَا والأحمر) أي (العربي) لكنها ذاكرة الحرب!! هذه الألقاب لا تعني لديهم العنصرية بالضرورة لكنها تعني أنك من قوى الشر وهم لا ينقتنعون إلا بالإثبات بالأفعال وإن أثتبت العكس فإنك ستجد (السودان الوطن الواحد). إنها مجرد انطباعات بين الطرفين، جاءت نتيجة لسياسات التفرقة والحرب على أساس العرق واللون لكن بزوال هذه الانطباعات تُرسم أجمل الذكريات والعلاقات.
ليلتان بالحميدية
دولة الحميدية، دولة القيم، العدالة والمساواة، بُني مجتمعها على احترام الآخر، التكافل، ينشدون السلام ويحلمون بالحرية والعودة لمناطقهم الأصلية وجذورهم، يحبون العمل والإنتاج، حرفياً منذ وصول النازحين المعسكر أسسوا لنظام حكم يسمح لهم بالتعايش رغم المحن فعليهم إدارة شؤونهم كلياً لضمان النجاة!!.. ليلتان في معسكر الحميدية بمدينة زالنجي (وسط دارفور) تعيد ذكريات وحكايا أشقاء وطن لم يلتقوا لسنوات.. عند مروري بالممر وسوق المعسكر كان الجميع ينظرون بغرابة (من الغريب وما الحقيقة).. سمعتهم يتساءلون عن (السلنقا) لكنهم حتماً مرتاحون لأنها تتجول مع من يثقون بهم، عبرنا الممر وصولاً لمنزل سكرتير المعسكر الشفيع.. وقبل الشروع في شرح مهمتنا التي أتينا من أجلها كان (القدح) جاهزاً، لم نتذكر مهمتنا الرسمية إلا في النهاية لأن (الونسة) كانت أكبر، ذكريات التاريخ المشترك بين الشعب السوداني وهجرات الدارفوريين لولاية الجزيرة، حكاوى التاريخ المشترك بين قبائل البطاحين والفور والتي ظل يسردها رئيس معسكر الحميدية محمد يعقوب بكل شغف للتلاقي، يحكي عن المشتركات بين الثقافات السودانية ولا يتوانى بأن يشعرنا بأننا جزء منهم بين كل دقيقة.. يحكي عن مشروع الجزيرة (موطني) ويحكي عن علاقة الناس بهم وكيف كان المشروع (سوداناً كبيراً)، يحكي عن تاريخ أجدادي ويحفظه عن ظهر قلب.
ذكريات!!..
تحدثنا قليلاً في المهمة الرسمية لا تقصيراً لكنهم كانوا أكثر ترتيباً لا تجده في أية مؤسسة رسمية.. انتهت المقابلة وحددنا مواعيد اللقاء بهم، لكنهم أصروا على أن نقيم معهم اليومين (فترة العمل)، فرغم ضيق منازلهم، إلا أن صدورهم كانت أرحب!!.. وقد كانت ليلتين من أجمل الليالي، استضافني وزميلي عبد الله ديدان، سكرتير المعسكر في منزله لم ننم طول الليل لأننا كنا محرومين من هذه الذكريات، ولم يغمض لـ (ماجدة) زوجة الشفيع جفنٌ وهي مهمومة بترتيبات الورشة الخاصة بالعدالة الانتقالية والسلام الاجتماعي في مارس 2020 أكثر منا هي ولجنة المرأة بالمعسكر – كل أماكن الخدمات بالمعسكر تمّ تأسيسها بالجهد الذاتي؛ فعلى الرغم من التضييق عليهم وحرمانهم من ممارسة النشاط الاقتصادي إلا أنهم يخاطرون بأرواحهم في سبيل قيمة العمل، يخرجون للزراعة فيكون نصيب النساء الاغتصاب ونصيب الرجال القتل لكن لم يوقفهم هذا عن إعمار المعسكر.. حيث بنوا مركزاً ضخماً من المواد المحلية لإقامة الأنشطة فيه.
قضايا أمنية
خلال يومين زالت مخاوفنا، وفي منتصف الورشة قام إسحق ممازحاً (يوم جيتي أول يوم قلنا السلنقا دا شنو بس هسا خلاص ما عارفين نفارقكن كيف)!! تبادلنا خلال الليلتين حكاوى العنف والقتل والتشريد، الوجع الذي لا يحتمله إلا من هم في معدن الشفيع، محمد يعقوب تور، إسحاق، لا تتحمله إلا نساء بقوة وجلد نساء الحميدية، ورغم ذلك ينتظرون السلام ويؤمنون بالدولة المدنية رغم أنهم فقدوا الأمن داخل المعسكر ما جعل سكرتير المعسكر الشفيع يرحل هو وأسرته مغادراً لمعسكر كلمة، إذ كنا شهوداً على قصص العنف تلك داخل المعسكر من أيدي تعبث بالسلام، قضينا ليلة في منزل الشفيع وجميعنا ينام (أرضاً) ومحروسون بشباب لا نسمع سوى همهماتهم، اجتهد الشفيع وماجدة حتى لا نشعر بشيء لكنهم لا يعرفون أننا سنتحمل معهم أي شيء.. يتأسفون لأن ما يحدث لهم من عنف في ظل الحكومة المدنية لكن هذا لم يمنعهم من دعمها وتعليق آمالهم عليها وأنهم يرجون منها الكثير.
والنازحون هناك متفائلون رغم أن رئيس المعسكر محمد يعقوب تور كان ملاحقاً وتمَ سجنه لأكثر من (4) أشهر بتهمة لا يد له فيها، أُطلق سراحه في منتصف شهر رمضان الفائت تدهورت حالته الصحية والمادية، لكن هذا لم يجعله متردداً يوماً ما في دعم الانتقال الديمقراطي، وفقاً لما ذكر لـ (مدنية نيوز) أمس.
أخيراً
فور دخولك المعسكر إما أصبحت صديقاً يسألون عنك وتنشأ بينكم علاقة صادقة يرسلون لك الهدايا، يسألون عن أوضاعك ويأتمنونك على أي شيء، أو لا يتواصلون معك فحدسهم لا يكذب وتحربتهم المريرة جعلتهم يجيدون قراءة الناس. فإن كنت سعيداً ستفوز بقلبهم وصداقتهم، ستكون جزءاً من مشروع حلمهم للسلام والعدالة فهم يحبون العفو والمصالحة، ينشدون الصدق في التعامل الشخصي والعام، لأنهم منفتحون على كل ما يحقق العدالة.
يتبع..