الحركات المسلحة والحُكم المدني.. سير فوق الأشواك لقطف الأزاهير
بقلم: د. مرتضى الغالي
لا تكتمل مكوّنات الحُكم المدني الا باخلاء الساحة العامة في الوطن من التنظمات العسكرية والمليشيات المسلحة وحمل السلاح (عدا الجيش والشرطة) حتي ينعقد الحق في حمل السلاح والقوة الجبرية فقط على جيش الوطن وشرطته.. بل يلزم الحكم المدني ان أن يكون الجيش والشرطة تحت أمرة الحكومة المدني.. فالحكم المدني لا يعرف سوى الاحزاب السياسية المدنية ومنظمات المجتمع المدني… فالأحزاب السياسة هي التي تنخرط في التدافع المدني السياسي ولا يمكن ان تكون في هذا المجال مليشيات عسكرية تعمل في النطاق السياسي.. ولا مجال لتحقيق عدالة التدافع المدني اذا كانت الاحزاب تواجه تنافساً سياسياً من مليشيات وتنظيمات مسلحة.. سواء كانت هذه التشكيلات العسكرية تعبيراً عنى توجهات سيسية أو جهوية مناطقية أو غيرها.. وهذا من الامور البديهية في مفهوم الحكم المدني ومنظومته ومؤسساته..!
والواقع الماثل في بعض البلاد التي تشهد تغييراً سياسياً جذرياً بعد انتهاء أجل الانظمة الشمولية أن المجتمع يواجه معضلة من هذا النوع..حيث تنتج عن النضال ضد الديكتوريات صورٌ شتى من النضال..منها العمل العسكري..فتتجه بعض المجموعات المغبونة من هذه الانظمة القهرية الى حمل السلاح والنضال جنباً إلى جنب مع المجموعات المدنية.. ومن طبيعة الاشياء بعد سقوط الانظمة الديكتاتورية ألا تذوب هذه المليشيات والحركات المسلحة وتختفي تلقائياً في غمضة عين ..ويبقى امام التغيير الديمقراطي واجب معالجة هذا الوضع الاستثنائي الناشئ عن وجود هذه المليشيات المسلحة على الأرض…وتتعمّق المشكلة كلما ظل النظام الدكتاتوري في السلطة لسنوات طويلة بحساب عقود من الزمان…(حالة السودان) مما يتطلب معالجات (سريعة وحكيمة وناجزة) لنزع سلاح هذه المليشيات واستيعاب عناصرها في الحياة المدنية، أو ترتيب ادماج عناصرها في القوات النظامية وفق حقوق المواطنة العامة على أن تخضع العناصر المُستوعبة منها لشروط المهنية والكفاءة وموجبات التأهيل وبصورة مهنية صارمة..فالاستيعاب في القوات النظامية له شروط وموجبات لا يمكن التهاون فيها..سواء على مستوى العناصر التي يتم استيعابها في سلك الجنود أو سلك الضباط والرتب العسكرية العليا..!
والتجارب العالمية على هذا الصعيد موجودة ومشهودة..وهي لا تختلف في قواعدها العامة وان اختلفت أوضاع المليشيات المسلحة وطبيعة تكوينها ونشأتها وهياكلها وتسليحها..الخ وتؤكد التجارب على ضرورة الاسراع بتذويب هذه المليشيات واستيعاب كوادرها في الحياة المدنية والمؤسسات المختلفة في المجتمع والدولة ..وجوهر المهمة هو الاسراع بتسريحها واعادة دمج عناصرها في المجتمع..!
وفي كل الاحوال لا يمكن اغفال الصعوبات التي تكتنف هذا التسريح والدمج في الفترات الانتقالية التي تعقب ازالة الانظمة الشمولية وتهيئة الدولة والمجتمع للحُكم المدني…ومن بين هذه المصاعب التي يمكن معالجتها؛ تعزيز الثقة بين هذه الحركات المسلحة والمنظومة الديمقراطية المدنية الجديدة التي اعقبت الحُكم الشمولي.. فمن غير جدال ان طول مجالدة الانظمة الشمولية عسكرياً تنتج عنه حالة من التلكوء في تسليم سلاح المليشيات بسبب (العسكَرّة) التي طبعت سلوك عناصر هذه المليشيات، وبسبب الشكوك التي تجتاح قادة المليشيات من (فقدان التأثير) إذا هم تخلّوا عن سلاحهم وقاموا بتسريح مليشياتهم..باعتبار أنهم (أصحاب قضية) دفعتهم الى حمل السلاح.. ولا بد انهم يتشككون في مصيرهم بعد زوال النظام الشمولى الذي كانوا يقاتلونه.. وقد يرون انهم كانوا لمدة طويلة في اغتراب عن الحياة المدنية ويحتاجون إلى بعض الوقت حتى يهيئوا انفسهم للانحراط فيها، وانهم يجدون صعوبات في التحوّل الفوري من (حركة مسلحة) إلى (حزب سياسي مدني)..!!
هذا ما يجب اخذه في الاعتبار عند التعامل مع الحركات والمليشيات والتنظيمات المسلحة العائدة للوطن وللحياة المدنية (ولكن يجب مواجهة من يصر على ان يكون مليشيا مسلحة رغم انف الدولة) والمطلوب أن يرتفع وعي قادة هذه الحركات المسلحة ويتسامى ايمانهم بضرورة احترام الحكم المدني والاقرار بأن المليشيات المسلحة لا يمكن ان تواصل حمل السلاح في النظام المدني الديمقراطي… وعلى الجانب الآخر لا بد من الوصول إلى اتفاقات مُلزمة بين الحكومة المدنية والحركات المسلحة فكل هذه المجموعات هي كيانات وطنية لا بد من ادماجها في المجتمع واشراكها في مؤسساته وفسح المجال لها للاسراع بالتحوّل الى العمل المدني السياسي..كما لا بد من تحديد وتنفيذ ادماجها في الحياة العامة..!!
هذه من بعض مهام الفترة الانتقالية التي تستوجب العناية الفائقة وعدم التلكؤ في تسريح المليشيات حتى يكون جيش الوطن وشرطته الجهة الوحيدة المخوّلة بحمل السلاح..هكذا تقضي شريعة الحكم المدني وما سوى ذلك لا يتولد عنه الا الفوضى و(شريعة الغاب)..!!