السبت, يونيو 28, 2025
تقاريرسياسة

المحاصصة.. بناء للدولة أم تقاسم للغنائم في السودان (2)

تحليل: حسين سعد

في الأزمة السياسية السودانية، تبرز المحاصصة كأحد المفاتيح لفهم التدهور المستمر في بنية الدولة، وتعثر مشروع الإنتقال الديمقراطي، فمنذ سقوط نظام الإنقاذ في 2019، وما تبعه من ترتيبات إنتقالية وإتفاقيات سياسية، ظل منطق تقاسم السلطة على أسس جهوية، إثنية، وحزبية هو العنوان الأبرز للمشهد السياسي في ظاهر الأمر، ومضت تلك الترتيبات إلى تحقيق (عدالة تمثيلية) تضمن مشاركة مختلف المكونات السودانية في الحكم، إلا أن ما تحقق فعليًا كان (نسقًا هشًّا) من الترضيات السياسية التي أعاقت بناء مؤسسات الدولة، وأعادت إنتاج النزاعات بدلًا من معالجتها، لقد أصبح من الواضح أن المحاصصة في السودان لا تُنتج إستقرارًا، بل تدفع إلى مزيد من التجزئة والإنقسام، فالسلطة لم تُبنَ على أسس برامجية أو وطنية جامعة، بل على حسابات آنية وتحالفات ظرفية سرعان ما تنهار عند أول إختبار حقيقي، وبدلًا من أن تكون الحكومة الإنتقالية منصة لإعادة تأسيس الدولة على أسس جديدة، تحوّلت إلى ساحة لتنازع القوى السياسية والمسلحة على المناصب والمكاسب، بينما بقيت أولويات المواطن من أمن وخدمات وتنمية رهينة هذا الصراع المزمن.

عودة العنف:

إن هذا الواقع يعكس خللاً بنيويًّا عميقًا، حيث أصبحت السلطة غاية في ذاتها، لا وسيلة لإدارة شؤون الدولة وتحقيق مصالح الناس، وهو ما يجعل المحاصصة لا مجرد أداة فاشلة لتوزيع النفوذ، بل عاملاً مهددًا لبقاء الدولة نفسها ففي ظل هذا النموذج، تتآكل ثقة المواطن في العملية السياسية، وتتوسع الهوة بين المجتمع والنخب الحاكمة، وتتكرس الولاءات الضيقة على حساب الهوية الوطنية الجامعة، في الحالة السودانية، ليست المحاصصة مجرد خلل إداري، بل هي أزمة بنيوية تمس جوهر المشروع الوطني. والنتيجة الطبيعية لهذا المسار، كانت عودة العنف، كما شهدنا في الحرب التي اندلعت بين الجيش والدعم السريع في أبريل 2023، والتي كشفت هشاشة الدولة وأظهرت إلى أي مدى يمكن أن تؤدي سياسات التقاسم غير الرشيد للسلطة إلى الإنفجار الكامل، وبالتالي، فإن تجاوز هذه الأزمة لن يكون ممكنًا دون مراجعة شاملة لفكرة المحاصصة ذاتها، وإستبدالها بنموذج يقوم على الكفاءة والمساءلة، وبناء عقد إجتماعي جديد يعيد تعريف الدولة على أساس المواطنة والعدالة ، فهل آن الأوان ليتخلى السودان عن ثقافة المحاصصة، ويتجه نحو مشروع وطني جامع يضع حدًا للفوضى المستمرة، ويؤسس لاستقرار حقيقي دائم؟ أم أننا لا نزال نراوح في دائرة مفرغة، حيث تُعاد إنتاج ذات الأخطاء بذات الوجوه، ولكن تحت مسميات جديدة؟ داخل هذا التحليل نحاول معرفة السياق التاريخي للمحاصصة في السودان؟ وأنواع المحاصصات في المشهد السوداني، تأثيرها على مؤسسات الدولة؟ وهل المحاصصة كعامل لزعزعة للاستقرار؟ ونحاول الدفع بأمثلة واقعية من التجربة السودانية؟ ومعرفة الأثر السياسي والاجتماعي؟ وماهي البدائل والحلول المقترحة؟.

السياق التاريخي:

إتسمت الحياة السياسية في السودان بالتعقيد، بفعل تركيبة إجتماعية وثقافية وديمغرافية متعددة الأعراق والديانات والمناطق، ومنذ إستقلال البلاد في عام 1956، لم ينجح أي نظام حكم في تحقيق توازن مستدام يرضي كافة المكونات، ما أفسح المجال لتكرار الإنقلابات العسكرية، وتفجر الحروب الأهلية، وصعود النزعات الانفصالية، نتيجة شعور جماعات متعددة بالتهميش السياسي والاقتصادي.

أ. الجذور الأولى للمحاصصة:

يمكن القول إن المحاصصة بدأت في السودان بشكل غير معلن منذ الحكومات الوطنية الأولى، حين كانت النخب السياسية تُوزّع المناصب السيادية والتنفيذية بين أبناء وبنات مكونات بعينها ذات النفوذ التاريخي في مؤسسات الدولة، هذا النمط الإقصائي ساهم في خلق شعور بالتمييز لدى مناطق مثل الجنوب ودارفور والشرق، ما أدى لاحقًا إلى انفجارات سياسية وعسكرية، كان أبرزها الحرب الأهلية التي قادت إلى انفصال جنوب السودان عام 2011م وكتب مثقفون كتب ومقالات عن ذلك التمييز ودعوا لمعالجة الأمر.

ب. الإنقاذ وإعادة إنتاج المحاصصة:

في عهد نظام الإنقاذ (1989–2019)، اتخذت المحاصصة طابعًا أكثر تنظيمًا ومؤسسيًا، لكن من زاوية مغايرة فقد لجأ النظام إلى (تمكين) عناصره داخل الدولة عبر تحالف أيديولوجي إسلامي – عسكري، إستُبعدت فيه القوى السياسية الأخرى، وخصوصًا المعارضة، وفي سبيل ضمان السيطرة، لجأ النظام إلى عقد إتفاقيات سلام منفصلة مع حركات مسلحة، تقوم على توزيع المناصب والإمتيازات بدلًا من معالجة الجذور الحقيقية للنزاع. وهكذا أصبحت المحاصصة أداة لشراء الولاءات أكثر من كونها آلية لخلق وفاق وطني.

ج. ما بعد الثورة ومحاولة إعادة هيكلة السلطة:

بعد ثورة ديسمبر المجيدة في 2018، برزت آمال واسعة لبناء سودان جديد، يقوم على قيم العدالة والمواطنة. ومع تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى بالشراكة بين المدنيين والعسكريين، كان من المتوقع تفكيك إرث المحاصصات إلا أن الواقع أثبت العكس، فقد سقطت الحكومة في فخ الترضيات السياسية مجددًا، مع توزّع المناصب بين قوى (الحرية والتغيير) ، ونالت أحزاب بعينها نصيب الأسد من كيكية السلطة ، هذه الوضعية جعلت البعض يستنكر ذلك ، أما الدولة العميقة فقد وصفت ذلك بتهكم ( أحزاب أربعة طويلة) وعندما ما تم توقيع سلام جوبا في العام 2020م ، وظهور حركات الكفاح المسلح كلاعبين أساسيين ،والذي أُسّس بدوره على مبدأ المحاصصة، لا على إصلاح مؤسسات الدولة، أطاح تحالف تلك الحركات مع الجيش بقوي الحرية والتغيير عبر إنقلاب البرهان في العام 2021م ، ولم يشفع توود الحرية والتغيير لبعض الحركات المسلحة وإنخراطهم معها في إجتماعات في كل من جوبا وأديس أبابا والقاهرة.

د. الحرب الحالية:

نتيجة متوقعة لمنظومة المحاصصة إندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لم يكن معزولًا عن هذا السياق، فكل من الطرفين كان جزءًا من معادلة السلطة الانتقالية، وتغذى على ثقافة المحاصصة وتوازنات القوة أكثر مما التزم بأي مشروع وطني موحّد، وهو ما يفضح إلى أي مدى فشلت النخب السودانية، حتى بعد الثورة، في الخروج من منطق توزيع السلطة على أسس جهوية أو عسكرية، دون أن تبني قاعدة صلبة لإدارة الدولة على أسس وطنية عادلة ومستدامة.

أنواع المحاصصات:

في المشهد السوداني المحاصصة في السودان ليست ظاهرة أحادية البعد، بل تتخذ أشكالًا متعددة تتقاطع فيها الإنتماءات السياسية، الجهوية، الإثنية، والعسكرية، ولفهم تعقيدات الأزمة السياسية السودانية بشكل عميق، من الضروري تصنيف هذه المحاصصات وتحديد سماتها، وأثرها على تركيبة الحكم واتخاذ القرار.

أ. المحاصصة الجهوية (الإقليمية):

تعتبر واحدة من أبرز أنواع المحاصصات في السودان، فقد ظل التوزيع الجغرافي للسلطة والموارد متركزًا تاريخيًا في (مثلث حمدي) الخرطوم، نهر النيل، الشمالية، على حساب مناطق الهامش كدارفور، النيل الأزرق، شرق السودان، وكردفان، وردًا على هذا التهميش التاريخي، برزت الحركات المسلحة كقوى تطالب بـ(التمثيل الإقليمي العادل)، ما أدى إلى توظيف المحاصصة الجهوية في الاتفاقيات السياسية، خصوصًا بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام، حيث مُنحت بعض الأقاليم نسبًا محددة في الحكم دون أن يُربط ذلك بكفاءة أو إصلاح مؤسسي حقيقي.

ب. المحاصصة الإثنية والقبلية:

بالرغم من أن السودان دولة متعددة الأعراق والثقافات، إلا أن النظام السياسي لم ينجح في تحويل هذا التنوع إلى مصدر قوة بل على العكس، وظّفت الأنظمة المتعاقبة البُعد الإثني كأداة للفرز السياسي والتمكين، ومع تراجع هيبة الدولة المركزية، خاصة بعد 2019، برزت التمثيليات القبلية كقوى ضغط في التفاوض السياسي، وأصبح تعيين المسؤولين أحيانًا مرهونًا بانتمائهم القبلي لضمان (التمثيل المتوازن)، لا على أساس الكفاءة أو المشروع الوطني.

ج. المحاصصة الحزبية:

برزت بوضوح في المرحلة الإنتقالية بعد الثورة، لا سيما بين مكونات قوى الحرية والتغيير، فبدلًا من تقديم نموذج ديمقراطي شفاف وفعال، إنغمست الأحزاب في صراعات داخلية حول توزيع المناصب الوزارية والسلك الدبلوماسي والمؤسسات الاقتصادية، مما قوّض ثقة الشارع بها، وكان هذا التنافس سببًا رئيسيًا في إضعاف الأداء الحكومي وتآكل الحاضنة السياسية للمرحلة الانتقالية.

د. المحاصصة العسكرية المدنية:

شكلت واحدة من أخطر أنواع المحاصصات وأكثرها ضررًا، فالشراكة التي فُرضت بين المكونين العسكري والمدني بعد إسقاط البشير، لم تقم على أسس دستورية واضحة أو معايير سلطة موحدة، بل على توازنات هشّة هدفها تجنب الصدام أكثر من بناء دولة، وفي ظل هذه الثنائية، احتفظت المؤسسة العسكرية – ومعها الدعم السريع – بصلاحيات أمنية وإقتصادية واسعة، مقابل ضعف مدني في إدارة الدولة، ما ساهم لاحقًا في انفجار النزاع المسلح.

هـ. المحاصصة الاقتصادية:

وهي الأقل حديثًا لكنها لا تقل أهمية، فقد أصبحت المناصب الإقتصادية الحيوية – كالمؤسسات المصرفية، الشركات الحكومية، والموارد الطبيعية – جزءًا من عملية الترضيات، ما حوّل الاقتصاد إلى ساحة للمحسوبية والمصالح الخاصة، وأفشل كل محاولات الإصلاح المالي والإداري، كل هذه الأنواع من المحاصصة، وإن بدت مختلفة في شكلها، تتشابه في نتيجتها: تقويض الدولة، إضعاف مؤسساتها، وحرمان المواطن السوداني من حقه في حكم عادل وكفؤ (يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *