الجمعة, نوفمبر 22, 2024
مقالات

التقارب السوداني الروسي (22)

بقلم: حسين سعد
في المحور السادس والثلاثون من سلسلة حلقاتنا التي نحاول من خلالها متابعة الازمة السودانية والتطورات الاقليمية والعالمية والمحلية، نخصص هذه المقالة لمتابعة التقارب السوداني –الروسي،وبحسب دراسة كتبها محمد تورشين نشرها مركز الجزيرة للدراسات شهدت العلاقات السودانية-الروسية منذ مطلع ستينات القرن الماضي (على عهد الاتحاد السوفيتي) تطورًا مطردًا؛ حيث جرى توقيع عدد من الاتفاقيات التي أسهمت بشكل مباشر في تطوير العلاقات بين البلدين على أصعدة شتي. وفي مطلع السبعينات، قطعت السلطات السودانية بقيادة الرئيس المعزول، جعفر نميري، العلاقات مع الاتحاد السوفيتي بعد فشل انقلاب الرائد هاشم العطا المدعوم من قبل موسكو، وبعد سقوط نظام مايوبدأت العلاقات تعود شيئًا فشيئًا. وفي العهد نظام الرئيس المعزول، عمر البشير، وصلت العلاقات إلى ذروتها بين البلدين حيث تحالف البلدان في المؤسسات الدولية ودعم نظام حزب المؤتمر الوطني احتلال وضم جزيرة شبه جزيرة القرم لروسيا، أما في العام 2017 فقد أضحت العلاقات بين البلدين الأوثق بين دول القرن الإفريقي حيث طلب الرئيس المعزول، عمر البشير، من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، علنًا حمايته مما أسماه بالتصرفات العدائية الأميركية. أما في عهد الفترة الانتقالية بقيادة عبد الفتاح البرهان-محمد حميدتي، نائبه، فقد حدث تقارب متسارع في قضايا جوهرية نرصده في الورقة التحليلية هذه.
الأهمية الجيوستراتيجية
يلعب موقع السودان الإستراتيجي الواقع في الجزء الشمالي الشرقي للقارة الإفريقية دورًا محوريًّا في تعزيز مكانته حلقةَ وصلٍ تربط بين دول شمال القارة وجنوبها وشرقها وغربها، فضلًا عن أن السودان يجاور حدوديًّا دولًا مهمة وعديدة، مصر وليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا. لذا، تشمل أهمية السودان الجيوسياسية التأثير على مناطق واسعة تشهد تنافسًا عالميًّا وإقليميًّا كمنطقة الساحل والشرق الأوسط والخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط وخصوصًا البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
ويمثل السودان نقطة انطلاق للقرن الإفريقي وأمن البحر الأحمر؛ حيث أخذت المنطقة أهميتها من خلال المقاربات والمعادلات والتفاعلات الإقليمية والدولية الساعية إلى التحكم في دول القرن الإفريقي. ثم إن السودان يملك ثاني أطول ساحل على البحر الأحمر (يبلغ طوله نحو 720 كلم). ولذا، فالسودان دولة محورية وأساسية لضمان أمن البحر الأحمر كما يمكن أن يهدد أمنه بالتأثير على الملاحة التي تمر عبر مضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وقناة السويس في مصر. عمومًا، يعتبر البحر الأحمر أحد أهم الممرات البحرية ويمر عبره ما يقدر بنحو 700 مليار دولار من التجارة الدولية؛ الأمر الذي يجعل السودان وثيق الارتباط بتفاعلات النظام الإقليمي والدولي.
يكتسب السودان أهميته بسبب حجمه حيث يعد ثالث أكبر دولة من حيث المساحة في إفريقيا بعد انفصال الجنوب في العام 2011. وفضلًا عن منافذه البرية التي تطل على سبع دول مجاورة فهو يمتلك منفذًا بحريًّا إستراتيجيًّا يستمد أهميته ليس فقط من كونه منفذ البلاد الوحيد بل أيضًا منفذًا فرعيًّا لبعض دول الجوار المغلقة (تشاد، وجنوب السودان، وإفريقيا الوسطى، وإثيوبيا). ويعتبر ميناء بورتسودان الميناء الأكبر والرئيسي الذي تمر عبره حركة التجارة والملاحة البحرية السودانية، بينما تعد مدينة بورتسودان مركزًا لوجستيًّا وتجاريًّا مهمًّا وبها مصفاة نفط رئيسية. ويُنقل عبر هذا الميناء نفط دولة جنوب السودان وتُصدَّر بضائع من خلال هذا الميناء بقيمة حوالي 8 مليارات دولار سنويًّا مما يضفي عليه أهمية كبرى بالنسبة للاقتصاد السوداني. لذلك تعد بورتسودان بوابة بحرية إستراتيجية ومدينة اقتصادية من الطراز الأول ووجهة سياحية للسودانيين
يتمتع السودان بوفرة في الموارد والثروات الطبيعية كاليورانيوم والذهب والكوبالت والنفط، إذ يمتلك السودان ثالث أكبر احتياطي في العالم من اليورانيوم وكذلك يحتل نفس المرتبة في إنتاج الذهب على الصعيد الإفريقي والمرتبة الثالثة عشرة عالميًّا بحجم إنتاج سنوي بحوالي 300 طن، فضلًا عن 220 مليون فدان صالحة للزراعة وثروة حيوانية تقدر بأكثر من 150 مليون رأس، مما يؤهله لأن يصبح فعلًا سلَّة غذاء العالم إذا استُغلَّت هذه الموارد والثروات لتحقيق الأمن الغذائي على الصعيدين الإقليمي والدولي
الأطماع والمصالح الروسية
منذ بداية الألفية الجديدة تعزز روسيا جهودها لفرض وجودها في القارة الإفريقية عبر أكثر من نافذة، حيث نجحت في السنوات السبع الماضية تحديدًا في إيجاد موطئ قدم لها في شمال القارة من خلال الملف الليبي الذي كان بمنزلة نقطة الانطلاق نحو بقية المناطق الحيوية في إفريقيا. ومنذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم يضع الروس أعينهم على البحر الأحمر حتى يتسنى لهم الحصول على قاعدة بحرية هناك تنقلهم للمياه الدافئة، لذلك لم تتوقف روسيا عن السعي لتحقيق الحلم القديم المتجدد وذلك بعد فشل محاولاتهم السابقة لإنشاء قاعدة لهم فوق أرض إفريقية تطل على مسطح مائي بحجم وأهمية البحر الأحمر.
تكلَّلت المساعي الروسية بتوقيع اتفاقية تعاون عسكري بين موسكو والخرطوم لإنشاء قاعدة بالبحر الأحمر، في نوفمبر 2020، وتهدف تلك الاتفاقية إلى تحقيق المصالح الروسية في القارة الإفريقية ونقطة لتسهيل الوصول إلى مناطق النفوذ الروسي في إفريقيا الوسطى ومالي وموزمبيق كما تربط بين محطاتهم البحرية في سوريا ومدغشقر. وتبلغ مدة الاتفاقية 25 عامًا قابلة للتجديد.
منحت الاتفاقية القاعدة (مجانًا) لروسيا، وأتاحت لها حرية استخدام المطارات السودانية لنقل الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية اللازمة للقاعدة، بجانب السماح بإرسال 4 سفن و300 فرد كحدٍّ أقصى في الميناء ويعد هذا المركز البحري الأول لروسيا في إفريقيا. ورغم نفي السلطات السودانية وادعاء بعض وسائل الإعلام أن السلطة الانتقالية السودانية ألغت الاتفاق فإن موسكو عززت نفيها بوصول سفينة حربية جديدة في مايو 2021. لم يكن النفوذ العسكري والتموضع الإستراتيجي هو الهدف الوحيد لمساعي موسكو لتدشين قاعدة عسكرية بالسودان، بل إن السيطرة على ثروات السودان المعدنية لاسيما الذهب واليورانيوم بجانب موارد الطاقة الهائلة والإمكانات الزراعية هي الهدف الأساسي لتحركات الروس لتعزيز نفوذهم بالسودان
إن التوقيع على إنشاء القاعدة البحرية الروسية وإن أتى ضمن اتفاق تعاون عسكري قديم دشَّنه الرئيس المعزول، عمر البشير، في موسكو قبل خمسة أعوام، إلا أنه تم من الطرف السوداني في أواخر يونيو/حزيران 2019، أي بعد جريمة فض الاعتصام ومحاولة المجلس العسكري وقتها الاحتماء بروسيا ولا يبدو أن هناك مصلحة سودانية للتقارب مع روسيا غير إقامة علاقات عسكرية بين البلدين ودعم النظام القائم، فالاتفاقات السابقة سلَّمت السودان عددًا من الدبابات الروسية وزورقًا بحريًّا، كما أن شراء السلاح والقمح من روسيا يتم على أسس تجارية وبأسعار باهظة لا يستفيد منها إلا الجانب الروسي والسماسرة من رجالات النظام السوداني السابق والحالي.

يبدو أن هدف حماية الأنظمة هو مدخل موسكو الرئيسي لإفريقيا ونذكر أن فكرة القاعدة أتت من الرئيس السوداني المعزول، عمر البشير، حيث كان قد عرض على فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي الروسي إقامة قاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر بالسودان يستخدمها الجنود الروس لحماية الخرطوم من أميركا. ورغم أن هذا هو الهدف الرئيس للسلطة الحالية إلا أنها تحاول أن تغطيه بالزعم بسعي السلطة الانتقالية لاسيما المكون العسكري إلى تنويع علاقاتها مع مختلف الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي. (يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *