الخميس, أكتوبر 17, 2024
سياسةمقالات

الانتقال الديمقراطي السودان، القتال المُمِيت: ما بين الفشل الجماعي والأمل في النهوض

بقلم هالة الكارب

لا شك أن الصراع الذي يدور في السودان هو صراع وجودي في المقام الأول يهدد فكرة بقاء الدولة السودانية والسودان كبلد موحد، حيث لا يلوح في الأفق مؤشر لرؤية واضحة حول عملية التفاوض ما بين تعدد الفاعلين وتعقيدات دوائر المصالح والضعف المريع والتشظي في الجبهة الداخلية السودانية وغياب القيادة والرؤية نحو تطوير عملية سياسية شاملة وصيغة للتفاوض ما بين الأطراف المتناحرة.

منذ خمس أعوام  كان  هنالك أمل للوصول  لحكم ديمقراطي ودولة تعبر عن السودانيين والسودانيات وفقًا لخلفياتهم/هن المتنوعة وأولوياتهم/هن  ورؤاهم/هن ، الآن و حسب وصف الأمين العام للأمم المتحدة  للأوضاع في السودان بأنها “كارثة إنسانية فادحة”،  وقد صرح  المستشار الخاص للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية “أن   احتمالات  الإبادة جماعية يمكن أن تتمدد في إقليم دارفور” وفي الواقع نحن كلنا  شهود عيان وضحايا في نفس الوقت ، للكم الهائل من الفظائع التي ارتكبت  والمجازر في عموم بلاد السودان، وتدمير البنى التحتية و انهيار القطاع الصحي والتعليمي ونهب وتدمير المنازل و البنوك و الأسواق والأعمال الصغيرة ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص والاثار  ومراكز البحوث والمدارس والجامعات  والمصانع .

والشاهد في الامر أن الملايين من السودانيين والسودانيات قد فروا وتركوا منازلهم التي استولت عليها ونهبتها مليشيا الدعم السريع.  أما أعداد الضحايا من المدنيين الذين قتلوا جراء الحرب فلا يقل وفق لتقديرات هيئات الإغاثة الدولية عن ال 50 ألف وإذا أضفنا من قتلوا جراء الأمراض والجوع فقد تصل الأعداد بسهولة إلى ما يفوق ال 150 ألف منذ قيام الحرب. بينما وصلت أعداد النازحين بعد استيلاء المليشيات على مناطق شمال النيل الأزرق وولاية سنار إلى 12 مليون نازح وهو الأكبر في العالم. ولا يقل عدد الذين لجأوا إلى البلدان المجاورة عن 5 مليون لاجئ وما لا يقل عن 19 مليون طفل فقدوا فرصهم في الدراسة، والملايين من طلبة الجامعات قد لا يتمكنون من استكمال دراستهم. يحدث كل هذا وكأننا نحن السودانيون يتم عقابنا بشكل جماعي لمجرد آمالنا في تحقيق الديمقراطية والسلام والعدالة.

وصدقاً يمكن القول إن الأجواء التي كانت تحيط بالثورة السودانية والطموحات نحو الديمقراطية والعدالة لم تكن مهيئة إن لم تكن عدائية. بالنظر لمواقف أنظمة الدول حول السودان نجد أن كل دول الجوار كانت قلقة من احتمالات التغيير في السودان وسرديات العدالة والحرية والسلام، حيث كان الهم الأساسي للفاعلين في دول الإقليم هو كيفية إيقاف وتحجيم احتمالات التحول الديمقراطي قبل أن تصبح الثورة عدوى منتشرة يصعب التحكم فيها ما بين شعوب المنطقة.

ورغم أن هنالك العديد من الأخطاء التي ارتكبت من قبل الفاعلين الإقليمين والدوليين فيما يخص السودان، إلا أن الأخطاء الجوهرية التي أوصلتنا لهذا الوضع المروع الذي نحن فيه هي سلسلة أخطاء النخب السودانية من القادة العسكريين والنخب السياسية المدنية فأصبح السودان فريسة سهلة لكل الطامحين.

لعقود من الزمان تم حرمان المعارضة السودانية المتمثلة في الأحزاب والكتل السياسية من الوصول إلى السلطة. حيث مارس نظام المؤتمر الوطني قسوةً وقهرًا لا متناهي في التعامل مع المعارضين من السجن، والقتل، والتنكيل، والمراقبة. أنتج ذلك بنية سياسية مركز مشروعها هو التخلص من نظام المؤتمر الوطني الذي امتد ل 30 عامًا.  وأصبح الوصول إلى السلطة في حد ذاته هو مشروع ومبرر لوجود المعارضة السياسية، مع غياب تام للتصورات حول أي مشروع تغيير وحكم واضح الملامح يأخذ في الاعتبار مقدار التعقيدات المتراكمة وإرث الظلامات. ورغم عظمة الثورة السودانية إلا أنها ثورة ولدت يتيمة، فالصراع الذي حدث حولها وفي أعقابها كان معزولاً عنها وعن تطلعاتها إلى حد كبير ومتركزًا في كيفية الاستحواذ على السلطة في المقام الأول وهو أمر مشروع، ولكن هذه الرغبة الجامحة في الاستحواذ على السلطة لم تكن مقرونة باستراتيجيات أو معارف أو على الأقل السعي الجاد لبناء مشاريع متماسكة للتغيير. فما بين غياب القيادة والنهم للسلطة وفي نفس الوقت انعدام الخبرة في التعامل مع تعقيدات الواقع السياسي والأمني بالسودان والغرور، كل ذلك أوصلنا إلى الخامس عشر من إبريل 2023، عندما وجد السودانيون والسودانيات أنفسهم في مصيدة وحشية لمليشيا مسلحة ذات تاريخ دموي، وقيادات جيش ضعيفة وفاسدة، فشلت حتى في حمايتهم وحماية جنودها، وساسة مستقطبين ما بين دول الإقليم غير مستعدين وغير قادرين على مواجهة الأزمة وتداعياتها.

منذ بداية الثمانينات مرورًا بحقبة الديمقراطية الثالثة وتحت ظل نظام البشير والجبهة الاسلامية ظل السودان عرضة لأوقات عصيبة وحروبات داخلية وجرائم حرب وعنف ممنهج. حيث عاشت البلاد عقودًا من العزلة الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية التي اثرت على أجيال من السودانيين وحرمت السودان من العديد من المنافع الاقتصادية والثقافية التي كان يمكن أن تغيير من واقع الحال، ومع حلول العام 2019 كان الوضع في السودان غاية في الخطورة والبلد على حافة الانهيار والفساد يستشرى في نسق تصاعدي غير مسبوق..

ففي سنواته الاخيرة فقد البشير الثقة في حلفائه من منسوبي نظام المؤتمر الوطني/ الجبهة الإسلامية، وعمل جاهدًا على إضعاف الجيش لحماية نفسه ومصالحة من احتمالات الانقلاب العسكري.  وفي المقابل عمل على تقوية الدعم السريع /الجنجويد، تلك المليشيا القبلية التي استثمرت فيها الأنظمة السودانية المتوالية بداية من حكومة الوفاق الوطني خلال حقبة الديمقراطية الثالثة عندما كان الراحل الصادق المهدي رئيس الوزراء والتي شهدت التحالف ما بين حزب الأمة وتنظيم الجبهة الإسلامية الذين استثمروا في مليشيات “المراحيل” وتجنيد قبائل الرعاة في الحرب ضد الجيش  [1] الشعبي في جنوب السودان وفي جبال النوبة وشمال بحر الغزال ومناطق أبيي. وقد [2]راكمت المليشيات العربية الرعوية في تلك المناطق تواريخ مظلمة في قتل المدنيين واسترقاقهم وارتكاب المذابح الجماعية وجرائم العنف الجنسي نيابة عن الأنظمة الحاكمة في السودان. وتظل الحقيقة الماثلة أن الدولة السودانية والمؤسسة العسكرية قد استثمرت في عسكرة القبائل العربية الرعوية واستغلت ضعف وغياب التعليم والتنمية وتواطؤ النخب من المجموعات الرعوية في المتاجرة بالشباب واستخدامهم كوقود للحرب والعداءات ما بين تلك المجتمعات وجيرانهم لصالح النخب المدنية والعسكرية. وبالتالي خلق ذلك أوضاعًا لا انتصار فيها إلا للجهل والدمار الذي استمر ما يزيد على النصف قرن من الزمان في مناطق دارفور وكردفان. حيث تمدد هذا العنف ليشمل كل السودان مع تمدد الظروف والملابسات التي أسست له، من ضعف الاستثمار في التعليم والتدريب والتوظيف والفقر والعزلة والتطرف الديني. فأصبحت العسكرة هي مصدر رزق للعديد من المجتمعات الريفية في السودان، بداية من كتائب الدفاع الشعبي وانتهاءً بالدعم السريع. وفي العقد الأخير من سنوات حكمه لم يجد البشير حليفًا أفضل من محمد حمدان دقلو  (حميدتي) الذي نال حظوة وثقة البشير المطلقة، حيث كان حميدتي تلميذًا نجيبًا وأكثر فعالية في الاستجابة لرغبات البشير ونظامه الإجرامي في إبادة السودانيين وسرقة   وانتزاع الموارد المعدنية والأنشطة خارج القانون والمتاجرة في الشباب وتجنيدهم كمرتزقة في الحروب في اليمن وليبيا.

وفي صبيحة الحادي عشر من إبريل للعام 2019، عند سقوط نظام البشير، كانت هنالك العديد من الجيوش في الداخل والقوى السياسية ودول المنطقة تراقب الوضع في السودان وتقرر ما الذي يمكن أن تجنيه من هذا التغيير. ومن ناحية أخرى ونسبة لتغلغلهم في المؤسسة العسكرية وبنية الدولة السودانية، ظن منسوبو النظام السابق من المؤتمر الوطني بأن التغيير لن يؤثر على قبضتهم على منظومة الدولة التي سيطروا عليها لثلاثة عقود، وأن الدعم السريع سيظل مجرد مليشيا مكرسة لخدمة مصالحهم. إلا أن ظنهم قد خاب بالمطلق ففي ذلك الوقت كانت قيادة الدعم السريع قد أدركت انه ليس بتابع، بل هو عامل رئيسي وحاسم ذو علم بدواخل الأمور ويمتلك علاقات دولية تتيح له فرصًا واسعة للمناورة والهيمنة.

وأمام موجات الرفض الشعبي العارمة إضافة إلى الرفض الإقليمي والدولي لنظام المؤتمر الوطني واهتراء المنظومة نفسها وتشظيها من الداخل كان لا بُد للمؤتمر الوطني من التواري عن الأنظار، إلا انهم ظلوا حاضرين في الخفاء.

وفي الواقع كانت دول الجوار الإقليمي تراقب الوضع عن كثب فيما يخص احتمالات التغيير في السودان، حيث كانوا يضعون خياراتهم ويقلبونها بصدد خلق حليف طيع لهم في السودان. تحديدًا مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة اللذين برزا كلاعبين أساسين في المشهد السوداني. فمصر صاحبة علاقات تاريخية وجوار ومصالح استراتيجية وعلاقات وطيدة مع السودان ومع الجيش السوداني الذي أسهمت في تأسيسه وتدريب العديد من قياداته. وبالتالي يظل لها تأثيرها في المشهد السياسي السوداني، وقد أسهمت عدة مرات في تقويض النظام الديمقراطي في السودان لصالح المؤسسة العسكرية. أما عن دولة الإمارات العربية المتحدة، فهي لاعب جديد في السودان وفي إفريقيا. فمنذ عقود عديدة أصبحت ملاذًا لمئات الآلاف من العمال المهرة والموظفين السودانيين جراء فقر مؤسسات الدولة السودانية وإغراء أموال الاغتراب والعيش المريح منذ بداية السبعينات والثمانينيات في مختلف القطاعات الاقتصادية، والخدمية، والبنية التحتية، وغيرها. ومع تفاقم عزلة السودان الدولية التي فرضها نظام المؤتمر الوطني وانهيار التعليم والمنظومات الاقتصادية، وشح الأموال من مدخولات النفط بعد استقلال جنوب السودان، قرر نظام البشير الاستثمار في فقر الشباب في السودان وإرسال السودانيين للانخراط في حرب اليمن نيابة عن التحالف الإمارتي السعودي، وهو القرار القاتل الذي يدفع السودان ثمنه الآن.

أثار حميدتي الذي كان يقود جهود الوكالة نيابة عن البشير إعجاب قيادات التحالف بفعاليته وبساطته والأهم من ذلك قسوته المتناهية وضعف علاقته بفكرة الدولة والمناورات السياسية مما يسهل من التعامل التبادلي الذي يطمحون إليه. كما اكتشفوا عن طريقه المصادر البشرية المهولة والكوادر الشبابية قليلة التكلفة والبسيطة التي يمكن تطويعها. وتوطدت العلاقة بين الإمارات وقادة الدعم السريع وتمددت في أعمال التنقيب عن الذهب والموارد الطبيعية حتى أصبح يشكل منافسة لقيادات الجيش التي طالما احتكرت الاتجار في الموارد والأعمال غير المشروعة. وفي نفس الوقت لم يكن صعباً على الإمارات أن توطد علاقاتٍها مع السياسيين المدنيين والنخب في السودان، فأسس التعاون مع الإمارات والعلاقات ما بينها والعديد من النخب السودانية بما فيهم الإسلاميين كانت موجودة منذ عقود. على الجانب الآخر عملت مصر على تعزيز نفوذها في داخل القوات المسلحة السودانية، ولكن بسبب أزمات الأخيرة السياسية والاقتصادية الداخلية تقلص هذا النفوذ بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة.

وفي الواقع، إذا كان هنالك نوع من التعاون ودراية بالأوضاع الداخلية وتعقيداتها من قبل دول الإقليم كان يمكن لعملية سياسية إقليمية جادة أن تسهم في تجنب الحرب، لكن طبيعة التحالفات التي حدثت هي تحالفات مُبتسر ة وخطرة في نفس الوقت، وخطورتها تكمن في أنها لم تعِ تعقيد السودان الذي يحتاج إلى معرفة حقيقية وتواصل مع مختلف الفاعلين. ومن ناحية أخرى أسهم التناول السطحي واللامبالي للمجتمع الدولي في مجريات الأمور في السودان والتقليل من تعقيدات الأوضاع في ثالث بلد من حيث المساحة في إفريقيا ويعاني من حدة الصراعات والحروب لعقود من الزمان في تفاقم الازمة.

يظل للأفراد ومقدراتهم القيادية دور جوهري في تشكيل بنية الدولة، تحديدًا في دول تغيب فيها المؤسسات والبنية السياسية الناضجة. فرغم زخم الثورة السودانية والتطلعات نحو التغيير، إلا أن فترة الانتقال القصيرة عانت إلى حد كبير من غياب القيادة المرجوة التي تتسق وخطورة الوضع في السودان في تلك اللحظات الحرجة. أدّى ذلك إلى حدوث أخطاء كبيرة وتهاون في الصلاحيات لصالح العساكر ولصالح الدعم السريع، مثل عدم الاهتمام بالحصول على استشارات واسعة ومتخصصة منذ البداية، حيث تحولت عملية التفاوض من تسليم السلطة إلى المدنيين إلى تقاسم سلطة مع سدنة النظام البائد، والإهمال في الاشراف على الملفات الأمنية التي منحت بكاملها للدعم السريع، وقرار إنهاء تفويض بعثة الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة في السودان في دارفور (يوناميد) في ديسمبر 2020. ورغم كل التحفظات على البعثة إلا أنها كانت إحدى الوسائل التي تعمل على امتصاص والتخفيف من حدة الصراع وحماية المدنيين في دارفور وتوفر آليات مراقبة مستمرة للأوضاع على الأرض.

ولأن “مَن أمِن العقوبة.. أساءَ الأدب” فقد أرسل تواجد الدعم السريع -وهي قوات قوامها ساهم في انتهاكات لا حد لها بجانب الجيش في مناطق دارفور المختلفة- رسالةً واضحة إلى مجموعات الجنجويد التي شاركت نظام البشير في العنف والتنكيل بمواطني إقليم دارفور، أن العنف والقتل لا غضاضة فيهما بشهادة المجتمع الدولي والحكومة الانتقالية. وكان في كل ذلك تقويض لشعارات الثورة والتطلعات نحو السلام والعدالة.

النتيجة أن السودانيين وجدوا أنفسهم أمام واقع مرير في أعقاب سقوط البشير، حيث أصبح الجنجويد هو الحاكم بأمره وتصوروا أنهم لم يكونوا مخطئين بإفلاتهم من العقاب والنصر الكبير الذي أحرزوه بتواجد أحد أبنائهم على قمة السلطة وبالتالي هي دعوة مفتوحة للعنف غير المحدود.  فشهدنا أحداث [3]كريندينق 1 و2 وأحداث الجنينة ودارفور الدامية واستمرار العنف ضد المدنيين في دارفور بشكل مخيف، إضافة إلى تمدد جرائم العنف الجنسي إلى الخرطوم [4]وجرائم فض الاعتصام وجرائم القتل التي لم تتوقف يومًا طوال حقبة الانتقال، واستمرت بشكل عنيف وصارخ بعد انقلاب أكتوبر 2021. أضف إلى ذلك فقد ارتكبت الحكومة الانتقالية خطأً جوهريًا بالفشل في محاكمة البشير ومنسوبي النظام السابق ومحاسبتهم بشكل جاد، مما أكد للكل هشاشة التغيير وعدم جدية وكلائه. حيث فشلت الحكومة الانتقالية في الاستجابة ولو بشكل مبدئي لتطلعات العدالة تحديدًا في دارفور والدفع بمحاكمة المطلوبين بشكل جاد تكرس له الدولة الموارد والاهتمام، أو تسليمهم للمحكمة الجنائية وفقًا للائحة الاتهام وأوامر القبض التي صدرت بحقهم وتم الإهمال عن عمد في التحقيق بشكل جدي في جرائم فض الاعتصام.

الشاهد في الأمر أن شوكة وثقة الدعم السريع قد أصبحت نافذة بسبب ضعف الفاعليين من المدنيين والعسكريين مما أعطى الدعم السريع المقدرة على ارتكاب المزيد من الجرائم من دون عقاب.  بينما استمر الفريق البرهان وحلفائه في قيادة الجيش في نفس ديدن الفساد ونهب الموارد. أما عن قتل المدنيين أمام القيادة العامة والقتل والتنكيل في حقبة الانتقال وبعد الانقلاب فلم يشكل لقيادة الجيش قلقًا أو عبئًا أخلاقيًّا، لأنهم ببساطة لم يعتادوا على تحمل مسؤوليات حماية السودانيين والسودانيات على العكس فطالما كرست المؤسسة العسكرية جهدها في استعداء الشعب، فالمهم بالنسبة لهم أن تكون علاقتهم جيدة مع قائد الدعم السريع وأن الاخير سيشكل لهم حماية ومصادر للمال عبر الأنشطة غير المشروعة كما فعل مع البشير.

إضافة الي ذلك لم تحدث أي قطيعة مع أيديولوجية النظام السابق ونهجه البائس مثال رفض التوقيع على مواثيق حقوق النساء وتغيير بنية القوانيين التميزية واتخاذ خطوات نحو الإصلاح المؤسسي والشفافية والشجاعة في مخاطبة الشعب السوداني بالمعضلات وترسيخ الممارسات الديمقراطية.  فاستمرت” الكشات” للنساء البائعات في الشارع وامتلاء سجن في أمدرمان بالنساء مرة أخرى نتيجة إعادة تدوير قوانين سبتمبر/ المؤتمر الوطني الكارهة للنساء. وعلية فقد اطمئن المتطرفين الدينيين في الجهاز القضائي فتفاقمت ظواهر أحكام الرجم والقطع بالخلاف. و ما حدث هنا ان  النخبة المدنية السياسية  اختزلت قيم الثورة في ترميز الشعارات ضد نظام البشير والإسلاميين في شخوصهم دون العمل علي نسج واقع مغاير .  ومن ناحية أخرى استثمرت الجهود   في تجنب المواجهات مع العساكر بقطاعاتهم المختلفة. وأخطر من ذلك فقد تصور العديد من الساسة المدنيين أن اصطفافهم وموالاتهم للدعم السريع الفاعل العسكري الجديد والمدعوم إقليميا في المعادلة قد يحد أو يهزم من سطوة الإسلاميين ونفوذهم داخل الجيش السوداني. هذا التصور المتغلغل في أيدلوجية القوى التقليدية السياسية السودانية هو تكرار لنفس معادلة الإسلاميين ومن سبقهم من النخب السياسية.  وما أسهل سرد تجارب تحالفات النخب المدنية مع النخب العسكرية والمليشيات في التاريخ السياسي السوداني من حكموا او من تحالفوا مع الجيش بغية [5]بناء قواعد جماهيرية [6] تلك المعادلة التي تلغي الإرادة الشعبية وتطرح النخب نفسها كقوى ناعمة في تحالفها مع العساكر مقابل الوصول إلى الحكم واكتساب سلطة على الأرض او مناصب سياسية وتسلم نفسها بالكامل لمشروعية البندقية. هذه المعادلة الفاشلة والبائسة التي عاشها السودانيون عشرات المرات كانت هي محور الصراع في أعقاب سقوط البشير وذات المعادلة وقد أوصلتنا إلى ما نحن فيه من انهيار.

وفي الواقع إن كل الدلائل تشير إلى أن الدعم السريع هو المسؤول الأول عن حملات الفظاعات وحمامات الدم التي ترتكب ضد الشعب السوداني منذ 15 إبريل. حيث استثمر الدعم السريع في عنف المؤتمر الوطني وطوره إلى عنف جماعي ممنهج وشامل للقضاء على العملية السياسية وبالتالي يصبح العنف هو جزء لا يتجزأ من المنظومة البنيوية للدولة، ويقوم عنف الدعم السريع على استرقاق الشباب والأطفال كمقاتلين بطوعهم أو بالإجبار بإفراغ البيئة المحيطة من أي خيارات ممكنة. وهذا لا يقلل من عنف الإسلاميين، ولكن نهج الدعم السريع هو مرحلة غير مرتبطة بأي أجندة سياسية، بل هي نقلة عبر التاريخ إلى منظومة أقرب ما تكون إلى الاسترقاق. وقد تجلت سيطرة نهج الدعم السريع على المنظومة السياسية السودانية في المواكب والتظاهرات ضد الانقلاب، لم يحدث في تاريخ السودان الحديث أن وصل المتظاهرون إلى القصر الجمهوري ولم تسقط أو تتراجع المنظومة الحاكمة وتحاول الوصول إلى صياغات تفاهم مع المتظاهرين، ولكن ورغم انتظام التظاهرات والمواكب لشهور وسنوات بعد الانقلاب استمر العنف والقتل بدم بارد في التصاعد. واللافت للانتباه أن هذا القتل لم تصاحبه أي من آليات الدولة البوليسية المعروفة، مثل الاعتقالات والتحقيق وغيرها من الوسائل المرتبطة بسطوة الدولة التي تحاول تتبع جذور التظاهرات ودافعها. ما يجب الوعي به أن الدعم السريع لا يمتلك أدواتً سياسية أبعد من العنف الوحشي، وما حدث منذ 15 إبريل يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك هذه الحقيقة وبالتالي لا مستقبل له في المعادلة السياسية في السودان.

ومن ناحية أخرى وعلى الرغم من أن الجيش لديه تاريخ طويل في الفساد والاختلال الوظيفي والضعف إلا أنه ضمن بنية  الدولة السودانية ومؤسساتها.  ولذلك فإننا عندما نتحدث عن عملية سياسية تخاطب هذه الأزمة ونظام حكم مستقر، من المهم التمييز ما بين الجيش السوداني ومنظومة المؤتمر الوطني/ الإسلام السياسي التي اختطفت الدولة السودانية بقطاعتها المختلفة بما في ذلك المؤسسة العسكرية. إن نزع الوكالة من أي من مؤسسات الدولة هو نزع للهوية الوطنية والسعي لامتلاك الوكالة هو الصراع الأهم الذي يجب أن نعي به نحن كسودانيين وهو أساس ثورة ديسمبر المجيدة. فلم تطالب دول مثل جنوب إفريقيا أو شيلي أو غيرها من الدول التي عانت مؤسساتها من الاختطاف من قبل الأنظمة العنصرية أو القمعية بحل الأنظمة الأمنية وإبدالها بمليشيات قبلية، ولكن بصبر شديد عملت على تحويلها وفق لأجندة الدولة وأولويتها.

وحقيقة أن الجيش ظل في علاقة متلازمة مع دوائر النخب السياسية التي تتبادل الأدوار في الحكم. لذا من المهم الوعي أن الإشكالية ليست في إصلاح الجيش فقط بمعزل عن إصلاح كل البنية السياسية السودانية بنخبها المدنية والعسكرية.  ويظل فصل الأواصر ما بين الجيش السوداني وجماعة المؤتمر الوطني مسألة حيوية في أي مشروع للتفاوض مع الجيش السوداني، بل وينبغي أن يكون ذلك ضمن شروط التفاوض: أن الجيش السوداني لا يمكن أن يكون حاضنة  للمؤتمر الوطني أو أداة لأي مجموعات سياسية او اثنية. ومن ناحية أخرى لا بُد من أن يحل الدعم السريع بالكامل وكل الجيوش ضمن عملية إصلاح أمني شاملة وجادة وسودانية خالصة يقوم بها الجيش بالشراكة مع قوة مدنية منتخبة من مختلف أقاليم السودان. تحديدًا يجب أن تشمل تلك العملية إعادة تأهيل وتسريح المقاتلين من الشباب والشابات ومنحهم الأمان فغالبيتهم يبحثون عن مخارج من دوائر الموت التي وجدوا أنفسهم فيها وذلك ضمن استراتيجية إصلاح شاملة للمنظومة الأمنية العسكرية وفق جدول زمني. تلك الرؤية لن تحدث دون استقلال للقضاء والتوصل إلى آليات محاسبة جنائية محلية والتعاون مع الآليات الدولية تحديدًا المحكمة الجنائية الدولية، إن العدالة والعمل في استقلال القضاء يشكلان القاعدة الصلبة للسلام والاستقرار.

الحقيقة أن ما يحدث في السودان الآن هو نقطة تحول تاريخية ونحن بحاجة إلى عملية تخاطب الوضع السائد حالياً وتنعكس على الواقع وليست عملية سياسية مبنية على صراعات الماضي وخصوماته.  فما يحدث الآن أكبر من كل خصومات الماضي وإن كان للماضي أهميته في التعلم والدروس.  فالخصومة والاختلاف تحتاجان إلى وطن وأرض لتقفا عليه. ففي ظل هذه الحرب الطاحنة لا يمكن أن تقوم منظومات سياسية على إدانة الإخوان المسلمين “الكيزان” والاعتذار عن جرائم الدعم السريع ويكون ذلك هو جُل مشروعيتها وهذا هو حال تحالف مجموعة “تَقَدُّم” وخطابها. فتقدم ليست تحالفًا مدنيًا عريضًا، فهي تجمع مصالح نخبوي يفتقر إلى المشروعية ويراهن على الوصول الي الحكم عبر مولاة الدول التي تسعي للهيمنة على السودان باعتبارها الطرف النافذ في الإقليم. أما الخطاب الثاني الخاص بالمؤتمر الوطني وهو الخطاب الذي يدعو الي الجهاد، واستمرار العنف، وعسكرة التدين واحتكاره. هذا الخطاب بالتحديد ساهم الي حد كبير في خلق هذا الجحيم الذي نعيشه. وهو خطاب فاشل و لا يمثل السودانيين ولن نتماهى معه كما لم نفعل طوال الثلاثين عاما.  فنحن كسودانيون لسنا بجهاديين، نحن شعب متسامح واسع الأفق قادر على التوطين والتوائم ومجبول على النضال السلمي، ولكن تخلف وبؤس بنية المؤتمر الوطني ومخلفاتها مثل الدعم السريع التي لا تمتلك سوى العنف وشراء الذمم والجهل، لا يملكون سوى نصب هذه المحرقة الجماعية للسودان وللسودانيين بمختلف خلفياتهم. وعلى المؤتمر الوطني وتحالف تقدم ألّا يسجنونا كأسرى في مساحتهم السياسية الضيقة الفقيرة والتي لا تتجاوز المُلاسنات والتحرش والإرهاب  والإقصاء.

ورغم بؤس وقتامة الأوضاع والآلام العظيمة التي لم تستثن أيًّا منا لا ينضب الأمل في الشعب السوداني وفي شعلة المقاومة التي لا تزال متقدة رغم إنهاك الحرب وتشظي الخطاب، فالعارف يستطيع أن يميز بوضوح انحياز السودانيين للسودان كما يعرفونه بدارفوره وكردفانه ونيله الأزرق والأبيض، ووسطه، وشماله، وشرقه. وتظل تحالفات المناطق والأقاليم التي بدأت في الانتشار والمجموعات المناطقية التي تبرز وتهتم بواقع الحال في داخل مناطقها وتكتسب مشروعيةً ومصداقية ما بين أهالي المناطق وتأخذ اشكال تجمعات سياسية واجتماعية أو مجموعات من المتطوعين دليل علي ذلك. فالسودان أكبر بكثير من أن يعاد تدويره بين حفنة نخب عسكرية ومدنين غير قادرين على احترام الإرادة الشعبية أو التعبير عنها.

من المهم جدًا أن تنتظم المجموعات المناطقية والاقاليم بعيدًا من الترميز الخادع، وأن تعمل على بناء الثقة وفقا للتجارب المُعاشة. فقد كشفت لنا هذه الحرب الانتهازيين بشكل سافر ومن يقفون مع السودانيين عن قرب ويشيلوا الشيلة. فالحكم الراشد ليس علم الفلك أو شُغل نجومية يقوم عليها أشخاص لا يمتّون لأهلهم ومناطقهم بصلة، بل هو عملية تقوم بشكل أساسي على الثقة، وسجل متراكم من الخدمة والاهتمام والتضحيات والسيرة الحسنة والقيادة والقدرة على التفكير الاستراتيجي وتقديم استحقاقات القيادة وتضحياتها.

فرغم صعوبة الأوضاع وتعقيدها فإنهم لن يتمكنوا من سلب إرادتنا، فنحن السودانيون لن نهزم، وسنستمر في حمل وتسليم شعلة المقاومة، وسنعمل على الاصطفاف في جبهات واسعة، ذلك سيحدث بالتأكيد.  فإن الحرب الوحشية التي تدور الآن في السودان ستضع أوزارها، ولكنها في نفس الوقت سوف تنتج في واقعًا مختلفًا، وبنيةً سياسيةً مغايرة تحمل معها ديناميات متباينة، تتطلب استراتيجيات ومواقف وتحالفات مرتبطة بمرحلة ما بعد النزاع، وهي مرحلة جديدة تتطلب معارف بمتطلبات ما بعد النزاعات من ترتيبات أمنية وتسريح وتأهيل القوات وجمع السلاح وفرض سلطة القانون، ومكافحة الفساد و العديد من متطلبات إعادة البناء التي ستشكل تحديات ضخمة أهمها بناء وإعادة تأهيل  المنظومات  الداخلية المتماسكة وبناء تعاونًا دوليًا وإقليميًا  فعال ومؤثر دون تفريط في السيادة الوطنية ومصالح السودانيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *