سد النهضة والمصالح السودانية: قراءة في مواقف حكومة الثورة الأولى (1)
بقلم: السفير عادل إبراهيم مصطفى
تقديم:
يُعدُّ مشروع سد النهضة الإثيوبي العظيم من المشاريع بالغة الأهمية بالنسبة للسودان، لما ينطوي عليه من إيجابيات محتملة، وصفها عدد من خبراء المياه – وعلى رأسهم البروفيسور سلمان محمد أحمد سلمان – بأنها تضاهي الفوائد التي تجنيها مصر من مشروع السد العالي، ولكن من دون أن يتحمل السودان التكاليف المالية أو الاجتماعية أو البيئية للسد.
وفي المقابل، ينظر خبراء آخرون إلى سد النهضة من زاوية الرؤية المصرية، التي تشكك في أمان السد وسلامته، وتعتبره مصدر تهديد خطير للسودان ومصالحه المائية والأمنية.
من هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى أن يتعامل السودان مع ملف سد النهضة بواقعية متوازنة، تراعي التحليلين الفني والسياسي معاً، وتهدف إلى تعظيم الفوائد المحتملة، وتفادي المخاطر المتوقعة، لاسيما تلك المرتبطة بأمر السلامة الهيكلية للسد، والتي تكتسب أهمية خاصة بالنسبة للسودان لقربه الجغرافي من المشروع.
لقد أفرز الواقع السياسي الجديد الذي أطلقته ثورة ديسمبر المجيدة، لا سيّما في الفترة التي سبقت انقلاب 25 أكتوبر 2021، آمالًا عريضة في إعادة توجيه السياسة الخارجية السودانية نحو تبني مواقف مستقلة تعبّر عن المصالح القومية العليا للبلاد، بما ينسجم مع ما نصّت عليه الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية، التي مزّقها الانقلاب، من اعتماد سياسة خارجية متوازنة، تقوم على حفظ السيادة واستقلال القرار وتحقيق المصلحة الوطنية العليا.
استنادًا إلى هذه الخلفية، تأتي هذه السلسلة من المقالات لتقيّم مواقف السلطة الانتقالية، بشقيها المدني والعسكري، تجاه قضية سد النهضة، وذلك من خلال تحليل مدى تأثر تلك المواقف بروح ثورة ديسمبر ومبادئها. كما تسعى لتحديد ما إذا كانت تلك المواقف قد انسجمت مع نصوص وروح الوثيقة الدستورية، أم أنها انزلقت إلى النهج التقليدي المتبع منذ الاستقلال، والقائم على التفريط في المصالح الوطنية والانحياز لطرف إقليمي على حساب مصالح السودان.
كما رأينا – على ضوء إعلان إثيوبيا نيتها افتتاح السد رسميًا في سبتمبر المقبل – أهمية توثيق بعض مواقف السلطة الانتقالية من هذا الملف، علّها تكون مفيدة في المستقبل عند تقييم الأداء الدبلوماسي والسياسي تجاه واحد من أهم الملفات الحيوية المرتبطة بمستقبل السودان.
خلفية قانونية وسياسية للخلاف:
من الضروري قبل الخوض في تقييم المواقف السودانية، الإشارة إلى أن الخلاف بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة هو في جوهره خلاف قانوني-سياسي عميق الجذور، يتمحور حول الإطار القانوني الحاكم لتقاسم مياه نهر النيل.
ففي حين تتمسك مصر باتفاقيات تقاسم المياه الموقّعة خلال الحقبة الاستعمارية (اتفاقيات 1902، 1929، و1959)، باعتبارها تُكسبها “حقوقًا تاريخية” لا يجوز المساس بها، ترفض إثيوبيا، ومعها غالبية دول حوض النيل (عدا السودان)، الاعتراف بهذه الاتفاقيات، لكونها لم تكن أطرافًا فيها، وترى أنها كرّست لهيمنة مصر على النهر، ومنحتها “حق الاعتراض” على أي مشروع مائي في دول الحوض.
بالتالي، تطالب إثيوبيا ومعظم دول الحوض بمراجعة تلك الاتفاقيات بهدف تحقيق مبدأ “الانتفاع المنصف والعادل” من الموارد المائية، وهو المبدأ الذي يكرّسه القانون الدولي الحديث للأنهار العابرة للحدود.
قراءة في مواقف حكومة الثورة الأولى (2019–2020):
في سبتمبر 2019، شكّل الدكتور عبد الله حمدوك حكومة الثورة الأولى، التي ضمّت كفاءات وطنية غير حزبية. وقد جاء تشكيل هذه الحكومة في وقت كانت فيه المفاوضات الثلاثية بين السودان ومصر وإثيوبيا بشأن ملء وتشغيل سد النهضة في أوجها.
وقد عبّرت تلك الحكومة، من خلال مواقفها الدبلوماسية، عن التزام واضح بمبادئ ثورة ديسمبر، لاسيّما من حيث اعتماد القرار الوطني المستقل، وتغليب المصلحة السودانية على الانحياز لأي من الطرفين.
وسنتوقف هنا عند ثلاثة مواقف مفصلية اتخذتها دبلوماسية حكومة الثورة الأولى، التي ترأستها السيدة أسماء محمد عبد الله، أول امرأة تتولى منصب وزير الخارجية في تاريخ السودان:
أولاً: رفض التوقيع المنفرد في مفاوضات واشنطن (فبراير 2020):
في الجولة التي انعقدت برعاية إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رفض وفد السودان بقيادة السيدة أسماء التوقيع على الاتفاق الذي صاغته واشنطن بشأن ملء وتشغيل السد، ووقعته مصر وحدها، في ظل غياب إثيوبيا التي قاطعت الجولة.
وقد برّر السودان موقفه بالتمسك بمبدأ الإجماع الثلاثي كأساس للتسوية، معتبراً أن أي اتفاق لا يُوقَّع من جميع الأطراف لا يُمكن أن يكون ملزماً أو قابلاً للتطبيق.
ويجدر بالذكر أن وساطة واشنطن جاءت بطلب مصري، في سياق مساعي القاهرة لنقل الملف من الإطار الإفريقي إلى الدولي، نظراً لصعوبة حصولها على اعتراف إفريقي صريح باتفاقيات ما قبل الاستقلال.
ثانيًا: التحفّظ على قرار الجامعة العربية بشأن “مخاطر السد” (مارس 2020):
في اجتماع وزراء الخارجية العرب بالقاهرة في 4 مارس 2020، رفضت وزيرة الخارجية السودانية تأييد مشروع قرار تقدّمت به مصر يدين الإجراءات الأحادية الإثيوبية.
ورغم أن القرار حظي بتأييد عربي واسع، إلا أن السودان سجّل تحفظه عليه، من منطلق أن إشراك الجامعة العربية قد يؤدي إلى مواجهة دبلوماسية غير ضرورية مع إثيوبيا ودول إفريقية أخرى، بما يُضعف جهود الوساطة الإفريقية بقيادة الاتحاد الإفريقي.
وقد أثار هذا الموقف استغراب عدد من الوفود العربية، لكنه شكّل سابقة مهمة في استقلالية القرار السوداني عن المواقف المصرية في المحافل الدولية.
ثالثًا: رفض الاتفاق الجزئي المقترح من إثيوبيا (مايو 2020):
في بيان صادر في 12 مايو 2020، أعلنت وزارة الري السودانية رفض عرض إثيوبي لتوقيع اتفاق جزئي بشأن الملء الأول للسد، الذي نفّذته إثيوبيا لاحقًا بشكل أحادي في يوليو 2020.
وقد تمسكت الخرطوم بضرورة توقيع اتفاق شامل يشمل الجوانب الفنية والقانونية، وعلى رأسها آلية تبادل المعلومات، وضمان سلامة السد، والآثار البيئية والاجتماعية.
كما أبلغ رئيس الوزراء عبد الله حمدوك هذا الموقف لرئيس الوزراء الإثيوبي في رسالة خطية، دعا فيها إلى العودة للمفاوضات الثلاثية الشاملة.
خاتمة:
لقد عكست هذه المواقف الثلاثة التزام حكومة الثورة الأولى بخارطة الطريق التي رسمتها ثورة ديسمبر المجيدة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وعلى رأسها مبدأ استقلال القرار الوطني، وعدم التبعية، ومراعاة المصلحة الوطنية العليا.
كما جسدت وعياً دبلوماسياً واستراتيجياً ناضجاً بطبيعة وتشابكات ملف سد النهضة، بوصفه جزءاً من صراع أشمل حول تقاسم مياه النيل.
وفي المقابل، بدا موقف السودان متمايزاً عن الموقفين المصري والإثيوبي، حيث رفض التوقيع المنفرد الذي أقدمت عليه مصر، كما رفض الاتفاق الجزئي الذي اقترحته إثيوبيا، متمسكًا بخيار التوافق الثلاثي المتوازن.
ويبقى السؤال: هل سارت دبلوماسية حكومة الثورة الثانية، المعروفة بـ”حكومة المحاصصات الحزبية”، على ذات النهج الوطني المستقل؟ أم أنها تراجعت إلى مربع التبعية والانحياز؟
هذا ما سنتناوله في الحلقة الثانية من هذه السلسلة.