الخميس, أكتوبر 30, 2025
تقارير

ستون تاون.. قلب التاريخ النابض (5)

كتب: حسين سعد

عند النزول إلى الجزيرة، يشعر الزائر وكأنه يدخل عالمًا من التاريخ والثقافة. الأزقة الضيقة في ستون تاون تحكي قصصًا عمرها سنوات طويلة ، والجدران الحجرية القديمة والمنازل المزخرفة بنوافذ خشبية تحمل نقوشًا عثمانية دقيقة، كل خطوة هنا تشعرني بأن الجزيرة تتحدث عن ملوكها وتجارها والمسافرين الذين مروا عبرها منذ قرون، على الشواطئ، الأطفال يلعبون بالرمال والمياه، بينما يلتقط السياح الصور التذكارية ويستمتعون بأشعة الشمس. البنايات المطلة على البحر، من فنادق فخمة إلى مقاهي صغيرة، تضيف طابعًا حضريًا على جمال الطبيعة، مانحة الزائر شعورًا بالرفاهية وسط السحر الطبيعي للجزيرة، المقاهي والثقافة المحلية في المقاهي المطلة على البحر، يلتقي السائحون بالسكان المحليين، ويكتشفون أسرار الثقافة الزنجبارية، من قصص البحارة القدامى إلى وصفات الطهي التقليدية. القهوة المحلية، المصنوعة من حبوب البن الفريدة مع لمسة من التوابل، تعكس التراث الغني للجزيرة، فيما تعزف الموسيقى التقليدية خلفية مثالية لحديث ممتع وهادئ.

القوارب الشراعية:

الأنشطة البحرية والمغامرة الرحلة في زنجبار لا تكتمل بدون المغامرة في المياه؛ ركوب القوارب الشراعية، الغوص لمشاهدة الشعاب المرجانية، والتجول بين الجزر الصغيرة المحيطة، كلها تجارب تكشف الزاوية الخفية للجزيرة. كل نشاط يقدم شعورًا بالحرية والاتصال العميق مع البحر والطبيعة، فيما السكان المحليون يرحبون بالزوار بابتسامات صافية وود أصيل، مع حلول المساء، تتحول الجزيرة إلى مشهد ساحر آخر؛ الأضواء الخافتة للمقاهي والمطاعم المطلة على البحر تضيف رونقًا خاصًا، بينما تنتشر الموسيقى الحية من أماكن متعددة، ويستمتع السياح بأمسيات هادئة على الشاطئ أو في مطاعم تقدم أطباق السمك الطازج والتوابل الزنجبارية. النسيم العليل يذكر الزائر بأن الجزيرة حية في كل لحظة، وأن الليل جزء من مغامرة لا تُنسى، الجزيرة التي تظل في القلب زنجبار ليست مجرد وجهة سياحية؛ إنها رحلة حسية وروحية. الأمواج، الشواطئ، الأسواق، الموسيقى، ورائحة التوابل كلها تجتمع لتخلق تجربة متكاملة تبقى محفورة في الذاكرة. كل ضحكة، كل لقاء مع السكان المحليين، كل لحظة غوص أو رحلة بحرية، يشكل فسيفساء حية من السحر والجمال، هذه الجزيرة، التي تجمع بين التاريخ والثقافة والطبيعة والمغامرة، تظل حلم كل مسافر، وتجربة لا تُنسى، حيث يلتقي البحر بالتاريخ، والمغامرة بالراحة، والثقافة بالرفاهية. زنجبار ليست مجرد مكان على الخريطة، بل قصة حية يرويها كل حجر، وكل شاطئ، وكل موجة.

العودة من زنجبار:

كانت العبارة ( كلمنجارو) تمخر عباب المحيط الهندي كعروسٍ بحريةٍ خرجت من أسطورةٍ قديمة، تحمل في جوفها أنفاس المسافرين وأحلامهم الصغيرة المتجهة نحو دار السلام. الريح تداعب أشرعتها المعدنية، والموج يرفعها حينًا كأنّه يُحيّيها، ويهبط بها حينًا آخر في مدٍّ وجزرٍ يليق برحلةٍ بين مدينتين تشبهان القلبين على شاطئٍ واحد، في الأفق البعيد، تتوارى مآذن زنجبار شيئًا فشيئًا، مثل حكايةٍ تودّعك على مهلٍ، فيما تلوح سواحل تنزانيا الأمّ كابتسامةٍ جديدةٍ تنتظرك على الجانب الآخر من الزرقة. رائحة الملح تعبق في الهواء، وصرير السفينة يختلط بصوت البحر، ذلك الصوت الذي لا يُملّ، كأنّ الكون نفسه يُنصت إلى لحن الرحلة، العبارة تتهادى، تتمايل برشاقةٍ بين الموج والضوء، كراقصةٍ تعرف إيقاع البحر منذ ولادتها. يلمع هيكلها تحت الشمس كفضّةٍ صقلتْها يدُ الوقت، والطيور تحوم حولها في رفقةٍ ودودة، كأنها دليل الطريق بين السماء والماء، في سطح السفينة، يجلس بعض الركّاب صامتين، يراقبون انسياب الزرقة الممتدة بلا نهاية، وآخرون يلتقطون الصور وهم يضحكون، بينما يمتزج صدى حديثهم بوشوشة الريح. هناك طفل يلوّح بزجاجة عصير، وأمّ تُصلح غطاء رأسها، ورجلٌ عجوز يغمض عينيه كأنه يصغي إلى صوت زنجبار وهي تبتعد، العبارة تمضي بخطى مطمئنة، تشقّ طريقها في المحيط كما يشقّ الحلم ليله الطويل نحو الصباح. وفي قلب كل مسافر، جزيرة صغيرة من الذكريات والحنين، تُبحر معه إلى دار السلام — المدينة التي تُشرق على الموج كنجمةٍ خضراء، تستقبل العائدين بابتسامةٍ من ضوءٍ ومطر، كانت العبارة كلمنجارو تشقُّ طريقها من زنجبار إلى دار السلام في صباحٍ تتقاطع فيه رائحة البحر مع نكهة القهوة السواحيلية. جلستُ على سطحها الأعلى، أراقب الأفق الممتدّ بلا نهاية، كأنما البحر صفحةٌ زرقاء تُكتب عليها الحكايات بمدادٍ من رغوة الموج، كانت زنجبار تبتعد ببطء، قلاعها البيضاء ومآذنها الدقيقة تتلاشى خلف الضباب البحري، مثل ذاكرةٍ جميلةٍ تتوارى عن العين لتبقى في القلب. وبين حينٍ وآخر، كانت أصوات النوارس تملأ السماء، وكأنها رسائل وداعٍ تُرسلها الجزر إلى العابرين، تتمايل العبارة بخفة، لا بعنف الأمواج بل بانسجامٍ معها، كأنّ البحر يعترف بصداقتها القديمة. كل موجة تمرّ من تحتها تترك همساً يشبه الكلام، وفي كل اهتزازٍ خفيف تشعر كأن السفينة تنبض بالحياة — نبض من فولاذٍ وملحٍ وذاكرة، في زنجبار، البحر أنثى؛ تُغريك وتغضبك في آنٍ واحد. وفي دار السلام، البحر أبٌ حكيم، يُلقّنك الصبر، كانت العبارة (كلمنجارو) تمضي كأنها تسافر بين زمنين: زمن زنجبار الذي يغفو على رائحة القرنفل والبهارات، وزمن دار السلام التي تستيقظ على صخب المدينة الحديثة. وبينهما، ذلك البحر الأزليّ الذي لا يشيخ، يحتفظ بأسرار من عبروا عليه، من تجار وتائهين، من عاشقين وشعراء، من راحلين لا يعودون (يتبع).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *