الإثنين, يوليو 28, 2025
تحقيقاتتقاريرسياسةمجتمع

لعنة الذهب السوداني: للمأساة أوجه متعددة

 

تحقيق: نصر الدين عبد القادر

“عشت مع زوجي أكثر من عشر سنوات، عايشنا فيها الفقر والعجز معًا. كانت المحبة زادنا في الحياة، وأنجبنا ثلاثة أطفال. وحين ذهب بحثًا عن الذهب، فتح الله عليه فتحًا عظيما، وأصبح بين ليلة وضحاها من أصحاب الأموال الضخمة. لكنه حين تكاثرت عليه الأموال، طلقني وتزوج بأخرى، وذهب معها إلى الخليج، وتركني مع أطفالي نلوك المأساة”، تقول امرأة ثلاثينية بقلب مكلوم، فضّلت عدم ذكر اسمها.

من هذه الحكاية تبدأ خيوط المأساة في مناطق الذهب بجبال النوبة، حيث يتدفق آلاف الشبان نحو التعدين الأهلي بحثًا عن الثروة، لكن ليس كل ما يلمع ذهبًا. فرغم الطفرة الاقتصادية، إلا أن هذا الازدهار مسموم بالزئبق، والسيانيد، والسيوريا… مواد تفتك بالناس، وتدمر التربة، وتغتال الغطاء النباتي، وتُمزق النسيج الأسري كما رأينا في الحالة السابقة.

فوضى الذهب بلا إحصاء

“يشهد قطاع التعدين في جبال النوبة نشاطًا متزايدًا، يتركز معظمه في التعدين الأهلي التقليدي، مع وجود محدود لشركات صغيرة”، يقول مهندس جيولوجي وناشط بيئي بالمنطقة ـ حُجب اسمه لأسباب أمنية ـ في حديث لـ”مدنية نيوز”. ويضيف: “الغياب شبه التام للتنظيم الرسمي فتح الباب أمام فوضى الإنتاج، وصراعات المصالح بين الأهالي والشركات”.

ويؤكد أن الدولة لا تمتلك أي إحصاءات دقيقة حول كميات الذهب المستخرجة، إذ يتم التنقيب غالبًا دون تسجيل أو رقابة. وتشير تقديرات غير رسمية إلى تهريب كميات ضخمة من الذهب عبر الحدود بفعل تفشي شبكات التهريب وضعف الرقابة.

بيئة ملوثة.. وأرواح مهددة

الخطر لا يقتصر على الاقتصاد، بل يطال البيئة والإنسان. يقول المهندس الجيولوجي: “تُستخدم مواد مثل الزئبق والسيانيد بشكل غير آمن، ما أدى إلى تلوث المياه، وظهور أعراض مرضية على السكان، ونفوق أعداد كبيرة من الحيوانات”.

وتتراكم مخلفات التعدين (الكرته) داخل الأحياء السكنية في جنوب كردفان دون أي إشراف حكومي. ومع موسم الأمطار، تختلط هذه السموم بمياه الأودية وتتسرب إلى باطن الأرض، مهددةً حياة الإنسان والنظام البيئي.

رقابة غائبة وسلامة مهدرة

“الرقابة الحكومية على التعدين ضعيفة للغاية، بل تكاد تكون منعدمة”، يقول المهندس، موضحًا أن أغلب الشركات العاملة لا تلتزم بإجراءات السلامة المهنية أو المعايير البيئية، لا سيما تلك المرتبطة باتفاقات غير واضحة مع الأهالي. حتى من يحاول الالتزام بالقانون “يواجه صعوبات بسبب هشاشة الأجهزة الرقابية”.

تدهور الخدمات الصحية

في غالب مناطق التعدين، تفتقر المجتمعات المحلية لأبسط مقومات الرعاية الصحية. “لا توجد سوى نقاط إسعافية بدائية، ما يزيد من خطر التعرض للتسمم”، كما يؤكد أحد السكان المحليين.

بيئة فوضوية.. وثمن اقتصادي باهظ

يقول الخبير البيئي د. جلال محمد يس، رئيس مبادرة “إعلاميون من أجل البيئة والتنمية المستدامة”:

 

“مع تدهور الإنتاج الزراعي، ونقص فرص العمل، اندفع آلاف المواطنين من الريف نحو مناطق التعدين، لكنهم وجدوا أنفسهم في بيئة عشوائية محفوفة بالمخاطر، تعكس فشل الدولة في التخطيط وتقديم البدائل”.

ويضيف: “الذهب الذي كان يُعد موردًا استراتيجيًا، أصبح عبئًا بيئيًا وصحيًا، يُهدد حتى المناطق الزراعية والغذائية التي يعتمد عليها ملايين السودانيين”.

الذهب نعمة أم لعنة؟

وسط هذا المشهد المتأزم، تتصاعد الدعوات لتنظيم القطاع، وتفعيل القوانين البيئية، وتوفير بدائل آمنة ومستدامة. يقول الخبير البيئي:

“نحتاج إلى سياسة وطنية تنقذ ما تبقى من بيئة جبال النوبة، وتحول الذهب من لعنة إلى نعمة”.

شهادات من قلب الأزمة

ناشط بيئي من منطقة المثلث (تلودي/كلوقي/الليري) ـ فضّل عدم كشف هويته ـ يقول لـ”مدنية نيوز”:

“التعدين أصبح مصدر الدخل الأساسي، وتسبب في تحسين الوضع الاقتصادي نسبيًا، لكنه أدى إلى تقليص الأراضي الزراعية، وتفاقمت مشكلات الأمن والبيئة”.

ويضيف: “تنتشر الأحواض العشوائية، ولا توجد آليات حديثة، ولا التزام من قبل المستثمرين، ما يعمق الأزمة”.

من جهته، يؤكد مدير أحد المناجم أن هناك التزامًا نسبيًا من بعض الشركات بإجراءات السلامة، لكن غياب الإحصاءات الدقيقة يعقد المشهد. ويشير إلى أن الفاقد من الذهب كبير نتيجة التهريب وسوء التخمير وغياب المهندسين المؤهلين.

غياب الإشراف.. وانتشار الشركات العسكرية

يشير موظف في قطاع المعادن إلى أن شركات عسكرية مثل الجنيد (سابقًا)، والجهات التابعة للجيش والدعم السريع، كانت وما تزال تسيطر على النشاط، دون التزام بالإجراءات الدولية.

ويضيف: “بعض المناطق كالتبونة فقدت آلاف الأفدنة الزراعية نتيجة التلوث، والناس بدؤوا التعدين دون أي تدريب أو وعي، والحكومة لم تفرض سيطرتها”.

الأطفال يتركون التعليم من أجل الذهب

يقول المواطن حسن  “يعمل الأطفال في الأحواض الملوثة بالزئبق، وتركوا مقاعد الدراسة، وتعيش أسر بأكملها في بيئة سيئة بلا خدمات”.

بعض الشباب افتتحوا مدارس من القش (الرواكيب) لتعليم الأطفال المتسربين من التعليم الرسمي.

الأشجار.. ضحية أخرى

الناشطون البيئيون يحذرون من القطع الجائر للأشجار في مناطق التعدين، لاستخدامها في الطهي والبناء، ما يُهدد الغطاء النباتي بشكل خطير، إضافة إلى الحفر العميق الذي يقتلع جذور النباتات.

احتجاجات متكررة.. وقمع أمني

شهدت مناطق مثل تلودي وقدير احتجاجات شعبية منذ 2019 ضد الشركات التي تستخدم مواد سامة، وأُحرقت بعض مقرات الشركات. واعتقلت السلطات عددًا من قادة الاحتجاجات.

ويقول أحد المحتجين: “الذين كانوا يرفضون السيانيد بالأمس، صاروا هم أنفسهم يستخدمونه اليوم”.

فساد إداري.. وشركات وهمية

أحد عمال المناجم يؤكد أن مستثمرين فاسدين لا يهتمون بالسلامة أو البيئة، ويسعون فقط للربح. ويضيف أن بعض الشركات تعمل تحت غطاء زراعي، لكنها في الواقع تمارس التعدين غير المشروع، كما حدث مع شركة أبرسي.

الزئبق.. سم بطيء

في 2022، كشفت دراسة لمنظمة “الشفافية وتتبع السياسات” أن السودان استورد أكثر من 4 آلاف طن من الزئبق، أي ما يعادل 450% من حجم التجارة الدولية الرسمية في 2020.

تشير الدراسة إلى أن شركة “سودامين”، التابعة للحكومة، تعاقدت مع شركات خاصة لاستيراد الزئبق، دون إشراف صحي أو بيئي. وتُستخدم 10-12 جرامًا من الزئبق لكل جرام ذهب، ما يعني استخدام مئات الأطنان سنويًا.

في سوق العبيدية فقط، يتم استخدام أكثر من 5.6 طن من الزئبق يوميًا، حسب الدراسة. ويُقدّر تسرب أكثر من 672 كجم يوميًا إلى البيئة.

توصيات لم تُنفّذ

رغم أن مجلس الوزراء قرر حظر الزئبق في 2029، فإن القرار لم يُفعّل حتى الآن. وأوصت “هيومن رايتس ووتش” بمنع استخدام الزئبق للأطفال، وتوفير خدمات صحية، وحملات توعية، لكن لا توجد مؤشرات على تنفيذ أي من هذه التوصيات.

في 2020، صرّح مبارك أردول، المدير السابق لشركة الموارد المعدنية، أن هناك أكثر من 35 ألف طن من الزئبق في السودان، وهي كمية مرعبة تهدد صحة الملايين.

ربما قضت الحرب على الأخضر واليابس في السودان، لكن ما يجري في مجال التعدين هو موت بطيء يتسلل عبر الزئبق والسيانيد إلى الإنسان والبيئة. وقد تُذكر هذه المرحلة في التاريخ، لا باعتبارها عصر الذهب، بل نقطة انهيار أمة قتلتها مواردها وسوء إدارتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *