الخميس, أغسطس 14, 2025
مقالات

ما غاب في صخب وسخف الحرب

بقلم: حيدر المكاشفي

في خضمّ أزيز الرصاص، وهدير الطائرات، وحرائق المدن، لا تُسمَع سوى أصوات البنادق. كل شيء آخر صامت، مختفٍ تحت الركام… بما في ذلك القضايا المصيرية التي كان ينبغي أن تكون في صدارة النقاش الوطني، لا في قاعه المنسي..ليست الحرب مجرد دمار عمراني أو نزيف بشري، بل هي أيضاً قاطعة طريق أمام أجندة وطنية ثقيلة، ومشروع تحوّل كان على وشك أن يبدأ، أو على الأقل يُناقش. وها هي الحرب تمحو ما تبقى من ملامحه. فإليك أبرز القضايا التي خنقتها المعارك، وأصبح الحديث عنها ترفا في بلد يغرق في دمائه وخرابه، من هذه القضايا العدالة والعدالة الانتقالية التي لطالماكان مطلبها من أبرز شعارات ثورة ديسمبر المجيدة، ثم صار مادة للمساومات السياسية.

واليوم مع هذه الحرب المدمرة المهلكة ومع تصاعد وتيرة الجرائم والانتهاكات ضد المدنيين، باتت العدالة في موضع أكثرتعقيدا، لا محاكمات، لا لجان تحقيق، لا شفافية. اضحت وامست واصبحت وما انفكت الجرائم ترتكب على الهواء مباشرة، لكن لا أحد يحاسب، ولا حتى يفكر في آليات جادة للمحاسبة. ومن القضايا المطمورة تحت ركام الحرب وانقاضها، قضيةالمصالحة الوطنية المفقودة..بعض الأمم تصنع وحدتها من المحن، أما سوداننا فيبدو أنه يُستنزَف أكثر كلما اشتد الجرح. فبدلاً من بناء مشروع وطني يعيد تعريف (السودانية) بمعزل عن العرق والجهة والولاء، تُكرَّسالشروخ، ويُعمَّق خطاب الكراهية، ويتحول الصراع من نزاع سياسي إلى فتنة مجتمعية تهدد بتفكيك النسيج الوطني برمّته..فسودان الحرب اليوم يعتبردولة منهارة بلا رؤية،وكثيرة هي الدعوات لإعادة هيكلة الجيش أو تفكيك التمكين، لكنها تحوّلت إلى هتافات في الهواء. لا أحد يناقش الآن كيف ستُبنى مؤسسات الدولة، أو من سيكون في موقع قيادة ما بعد الحرب. الكل مشغول بالبقاء، لا بالبناء. لكن تأجيل هذه المعركة سيجعل كل الانتصارات العسكرية مجرد استراحة قبل الانهيار القادم..

البلاد تعاني اقتصاد الموت والنهبوتوقّف الاقتصاد السوداني ليس هو الكارثة فحسب؛ الكارثة الحقيقية أنه لا أحد يتحدث عن (أي اقتصاد نريد؟). لا سياسة نقدية، ولا برنامج تنموي، ولا حتى ميزانية واضحة. الذهب يُهرَّب، الأراضي تُباع، والموارد تُنهب بلا رقيب. حرب اليوم تُدار بمال الغد. وهناك كذلك قضية اللاجئين (بشر بلا دولة)،ملايين السودانيين بين نازح ولاجئ، داخل وخارج الحدود، يعيشون بلا سقف ولا ضمانات ولا حتى أمل بالعودة. الحكومة غائبة، والجهات الدولية تائهة، والكارثة تتضخم. لا توجد خريطة طريق لإعادتهم، ولا نقاش وطني حول كيفية إنصافهم أو إدماجهم من جديد..

التعليم والصحة تحت الأنقاض،أجيال سودانية تعيش الآن دون مدارس، وأخرى لم تعد تعرف معنى (مستشفى). البنية التحتية دُمرت، والمعلمون والأطباء إمافرّوا أو قُتلوا أو توقفوا عن العمل..إن ما يحدث ليس فقط أزمة تعليم أو صحة، بل إعدام جماعي للمستقبل..وهناك ايضا قضية البيئة (الضحية الصامتة)،في بلد يعيش على الزراعة، تُنهب الأراضي، وتُحرق الغابات،وتُستنزَف المياه، وكل ذلك يجري بلا تخطيط ولا تنظيم.. البيئة تُباد بصمت، مثلها مثل المواطنين الذين لا يجدون مأوى من الحرب ولا ظلا من شجرة..وهناك ايضا الجرح المفتوح على الدوام ونعني قضية المركز والهامش..كان يفترض أن تُفتح ملفات التهميش واللا مركزية والتنمية المتوازنة، لكن الحرب أعادت إنتاج ذات المعادلات القديمة، نخبة مركزية تحتكر، وهوامش غاضبة تُقاتل. لا جديد سوى مزيد من الدماء على ذات الأرض المنسية..اصبحالسودان بين أيدي الغرباءفمع كل يوم يمر، يتضح أن قرار الحرب والسلم لم يعد سودانيا خالصا.. تتعدد الأجندات الإقليمية والدولية، ويتصارع اللاعبون الخارجيون على جثة وطن. السيادة تُساوَم، ولا أحد يسأل من يملك قرارنا؟ وكيف نستعيده..

وأخيرًا، لعل أخطر ما خلفته الحرب هو تغييب الفضاء المدني.. أُسكتت الأصوات المستقلة، أُغلق المجال أمام الحوار، وانحسر الإعلام الجاد.. كل ما تبقى هو خطاب تعبئة وتحريض أو صمتمذعور..تحت أنقاض هذه الحرب، لا يكمن فقط الركام الفيزيائي، بل ركام أخلاقي وسياسي وإنساني عميق..إذا لم نُخرج هذه القضايا إلى السطح ونعيد طرحها بشجاعة، فإن نهاية الحرب – إن أتت – ستكون مجرد بداية لحروب أخرى، أشد وأعمق، وأكثر خفاءً.فالحرب لا تقتل البشر فقط، بل تقتل الأسئلة. والسودان اليوم يحتاج إلى استعادة الأسئلة قبل استعادة السلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *