الخميس, أغسطس 14, 2025
تقاريرسياسة

من الكشّات إلى القذائف.. حكايات صمود بائعات الشاي والأطعمة

الحرب تشتّت أرزاق النساء على الأرصفة

تقرير: حسين سعد

تحت شمس السودان الحارقة، حيث تذوب الظلال في لهب النهار بالخرطوم ، كانت تجلس حواء محمد، على قارعة الطريق، تُمَرّر كفيها فوق موقد الفحم، تعد الشاي بطريقتها التي تحفظها من ذاكرة الأمهات، رائحة (الزنجبيل والنعناع والهبهان) تتصاعد في الهواء الملبد بغيوم الحرب، ومواقد النار الصغيرة تئن من ثقل الأواني، بينما تحاول النساء النجاة بما تبقّى من يومهن، ومن المدينة نفسها.

في الخرطوم بمحلياتها المختلفة، لم تكن الأرصفة مجرد أماكن للعبور، بل كانت مسارح للحياة اليومية، ومصادر رزق لمئات النساء من بائعات الشاي والأطعمة.. نساء من الهامش جئن حاملات أحلاماً صغيرة في أوانٍ نحاسية، واجهن بشجاعة “كشّات” النظام العام، وملاحقات المحليات التي كانت تقتلع طاولاتهن الصغيرة كما تُقتلع الأحلام من جذورها، لكن، الحرب غيّرت كل شيء، لم تعد الكشّات وحدها مصدر الخوف، بل أصبحت الحياة نفسها نزهة محفوفة بالموت، حيث تلاشت الأرصفة، وإحترقت الأسواق، وتقطّعت أوصال المدينة، وباتت لقمة العيش مؤجلة، إلى زمنٍ غير مُسمّى، ففي ظلّ الحرب، تحوّلت معركة البقاء اليومية لبائعات الشاي إلى مواجهة مع الجوع والنزوح، وفقدان المأوى والمورد.

أحلام النساء المحترقة

في شوارع الخرطوم التي غادرها الناس، وفي الأزقة التي كانت تعبق برائحة البهار، والمُلاح والبن المطحون، صمتت الطاولات البلاستيكية، وذبلت الأكواب الزجاجية، وذهبت نكهة الحياة، لم تعد بائعات الشاي يفرشن الأرض، ولا يبتسمن للزبائن العابرين، الحرب أغلقت المدن، وفتحت أبواباً واسعة للفقر، والخوف، والتشرد، وما تزال النساء في الواجهة، يدفعن الثمن وحدهن، دون ضجيج، كانت (ستات الشاي) كما يطلق عليهن — أيقونة الحياة اليومية في السودان، يبعن الشاي، والقهوة، والطعام البلدي، في قلب الأسواق ومحطات الحافلات وأمام المكاتب، حملن على أكتافهن ما عجزت عنه الدولة، إعالة أسر بأكملها، تعليم أبناء، تسديد الإيجارات، وشراء الدواء من عائد مهنة بسيطة ومضنية، لكنها شريفة، كانت تجارة الشاي والأطعمة تمثل مصدر دخل لآلاف النساء، وتُعد جزءاً مهماً من الاقتصاد غير الرسمي الذي يسد فجوات فشل السياسات الحكومية المتعاقبة، لكن، الحرب دمرت البنية التحتية، وقضت على القدرة الشرائية للمواطنين، وقللت فرص الربح إلى حدود معدومة.

أكواب من الصبر.. وأطباق من التعب

قبل إندلاع الحرب، كانت بائعات الشاي والأطعمة يشكلن جزءاً أصيلاً من النسيج الاقتصادي غير الرسمي في العاصمة السودانية، نساء يُعِلن أسرهن، ويمثلن نموذجاً لصبر المرأة السودانية وصراعها مع ظروف الحياة القاسية، ورغم ما تعرضن له من مضايقات رسمية – خاصة من شرطة النظام العام، التي كانت تشن حملات تفتيشية وتصادر أدواتهن – إلا أنهن صمدن، وإخترن البقاء في العلن، رافضات الخضوع أو الاستسلام.. الأسواق الشعبية التي كانت تعج بالحياة أصبحت ساحات قتال، ومطاعم وكافتيريات، كانت تعج بالروائح الشهية والزبائن، تحولت إلى “خرابات” يعلوها الدخان.

بائعات الشاي نزحن إلى مناطق أكثر أماناً، بعضهن إلى الولايات المجاورة للعاصمة، وبعضهن ذهبن إلي الشمالية ونهر النيل وولايات الشرق الثلاث، أو إلي ولايات كردفان الكبري.. وتقول حُسنة آدم، وهي أرملة، وأم لخمسة أولاد وثلاث بنات، غالبيتهم/ن تخرجوا من الجامعات، ومنهم أصبح يعمل، تقول: كنت أبيع الشاي وسط السوق العربي بالخرطوم، “بس الحرب ولّعت”.. خرجت مع أولادي، إلى ولاية نهر النيل، الإيجارات أرهقتنا، وماعندنا عمل…

وضعية حُسنة لا تختلف عن حال روضة التي كانت تعمل في جامعة الخرطوم، ولديها علاقات إجتماعية مع الطلاب والموظفين والاساتذة، وهو ذات الحال مع أم قسمة في شارع الحوادث، التي تم تكريمها من قبل شباب الحوادث في العام 2015، بقص شريط عنبر الأطفال، أما بادرة (وارقو) التي يعرفها الصحفيون والصحفيات، وتربطهم بها مودة كبيرة، فقد كانت أكثر حضوراً وإستجابة للنداء الإنساني تضامناً مع الزميل الصحفي أشرف عبد العزيز، معلنة تبرعها بكليتها للزميل أشرف.

الحرب تُطفئ مواقد الرزق

خيّم الرصاص على المدن، وإحترقت الأسواق، وإنهار كل شئ، وتقطعت الطرق، فوجدت بائعات الشاي والأطعمة أنفسهن مشردات، من العاصمة إلى أطراف السودان، بلا رأسمال، بلا أدوات، بلا مأوى، ولا حتى زبائن، كثيرات فقدن مناطق كسب رزقهن، وبعضهن فقدن أبناءهن، وأُخريات وجدن أنفسهن في معسكرات النزوح، بلا ظل ولا سند، اليوم، يمكن أن تراهن في كسلا ودنقلا وعطبرة وشندي، وفي أسواق الأبيض، في شوارع القضارف، وأمام مراكز الإيواء، بعضهن يفترشن الأرض، في ظروف بالغة القسوة، يبعن الشاي من إبريق وحيد، دون ظلٍّ يحميهن من هجير الشمس الحارقة، وبعضهن يحملن أطفالهن على ظهورهن، ويطهين العدس والفول بأيدٍ مرتجفة، لأن الجوع لا ينتظر، فالحرب في السودان، لم تسرق من النساء فقط بيوتهن، بل سرقت مصدر دخلهن، كرامتهن المهنية، وسلامتهن الجسدية والنفسية، وأمام هذا الخراب، لم تُطرح أي خطة حكومية، أو إنسانية لحماية هذه الفئة التي تُشكل شرياناً إقتصادياً خفياً في المدن السودانية.

وتشير الإحصائيات إلي أن نسبة (76%) من الأُسر، تعتمد علي النساء في الصرف علي متطلبات الحياة والمعيشة، المراة السودانية لا تطلب صدقة، بل حقاً بسيطاً في الحياة بكرامة، في وجه المدافع، يواصلن (الطبخ، والكفاح)، حتى لا يسقط البيت من الداخل، وفي كل كوب شاي يُقدم، وفي كل صحن فول يُطهى، هناك قصة مقاومة، وصوت إمرأة تصرخ: (نحن هنا لا تنسونا).

هذا التقرير يحاول أن يلتقط نبض الحياة في عيون هؤلاء النسوة، أن يروي كيف غيّرت الحرب خارطة الرزق، وماذا بقي من رائحة الشاي بنكهاته المختلفة، في مدينة أنهكتها النيران، لذلك، نوصي بتكوين صناديق دعم طارئة للنساء العاملات في الاقتصاد غير الرسمي ومهنة بيع الشاي والاطعمة وسبق ان دعمت منظمات محلية واقليمية إتحاد بائعات الشاي والأطعمة ، الذي تقف علي رئاسته (عوضية كوكو) و(عوضية محمود)، وإصدار تراخيص مؤقتة مجانية لهن في مناطق النزوح، مع توفير مواقع عمل آمنة ومدعومة بالخدمات الأساسية، وإشراك منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات النسوية، في رصد الإنتهاكات وتوثيقها، وتوفير الدعم القانوني والنفسي، وتضمين قضايا النساء العاملات في جهود التعافي وإعادة الإعمار بعد الحرب، وعدم تجاهلهن كمجرد (عمالة هامشية).

نساء يصنعن الحياة من تحت الركام

من ضيق الشارع إلى ضيق الوطن، بائعات الشاي لم يطلبن الكثير(موقد صغير) و(بنبر) مزقت حباله كشات حملات النظام العام، و”فسحة” آمنة على الرصيف، لكن الحرب جرّدتهن من كل شيء، وما لم يُرد الاعتبار لهذه الشريحة المجتمعية المثابرة، التي طالما شكّلت دعامة للاقتصاد الشعبي، فإننا نخاطر بخسارة واحدة من أقوى صور الصمود النسائي السوداني.

في إنتظار نهاية الحرب، وتحت وهج شمس الخرطوم اللاهبة، لا تزال بعض النساء تترقّبن عودة الحياة إلى موقد الشاي، ولو بعد حين، وفي ظل أصعب الظروف، تقف النساء بائعات الشاي والمأكولات الشعبية كجدار من صبر لا ينكسر، يرفضن الإستسلام، ويصنعن الحياة من أبسط الموارد، هنّ لا يحملن سلاحاً يقتل الناس، ولا يظهرن في “المؤتمرات”، لكنهن، بقين “مداميك” أعمدة المجتمع، التي تظل صامدة، حتى حين تهوي الجدران، وبينما يكتب التاريخ فصول الحرب والدمار، لا بد أن نُخصص صفحة مُشرِّفة للنساء المنسيات، اللواتي لم يتوقفن عن العمل، حتى حين إحترق الوطن.

نختم هذا التقرير الصحفي، بما كتب شاعر الشعب محجوب شريف، مُحتفياً بـ”بائعات الشاي”، وتمجيد عمل النساء، والتغنّي بكفاح النساء “ستّات الشاي”، فقال مُغرّداً: “كفتيرة تسد الحيرة .. يا بت أحسن من غيرا.. الريح بتهد من حيلا .. بتقلل ليلا مطيرا .. أُمّك والصحة بتنزل .. بتمغرب قبل عصيرا .. ياحليلا العرق اتصبّب .. فصّد والله جبينا .. اِتدنّا همقلوبينا .. أخوانك شُفّع قُصّر .. لِسّة ما بفشُّوا غبينا … والحِيلة قليلا بليلة … مرّات بي موية كِسيرة .. روشتة تخلّي الحِتّة … أضيق من ثُقبِ إٍبيرة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *