“فكر في الصحة.. فكر في الصيدلي.. شعار عالمي وحُلم صيادلة السودان
تقرير: محمد ديّوب
اليوم بينما يحتفل العالم باليوم العالمي للصيادلة في 25 سبتمبر 2025 تحت شعار “فكّر في الصحة، فكّر في الصيدلي”، يجد صيادلة السودان أنفسهم في واقع مرير يختزل نقيض هذا الشعار. فبدلاً من أن يكونوا حجر الزاوية في نظام صحي فعال، تحولوا إلى جنود في خط النار، يواجهون عنف الميليشيات، وانهيار سلاسل الإمداد، وإجحاف المؤسسات الرسمية، ليصبحوا الملاذ الأخير لملايين المواطنين في بلد مزقته الحرب.
شعار الاتحاد الدولي للصيدلة (FIP) لهذا العام يهدف إلى تسليط الضوء على دور الصيدلي كعنصر أساسي في تحقيق التغطية الصحية الشاملة، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية ونقص الموارد. لكن في السودان، تجاوز دور الصيدلي هذا المفهوم ليصبح الطبيب والممرض والمسعف والمستشار النفسي، وأحياناً الدائن، في بعض المجتمعات المحلية التي انقطعت عنها كل أشكال الخدمات الصحية.
الصيدلي.. الوحيد المتبقي
في حي الدروشاب شمال الخرطوم بحري، يلخص المواطن عبدالمنعم حسين هذا التحول الدراماتيكي. يروي لـ(مدنية نيوز) كيف تخلى تماماً عن ارتياد المراكز الصحية حتى قبل الحرب بسبب كلفتها الباهظة. يقول عبدالمنعم: “الدخول إلى أي مركز صحي يحتاج إلى أموال كثيرة جدًا، ونحن بالكاد نستطيع توفير ما نأكله ونشربه. لذلك أصبحت أتعامل فقط مع الصيدلي؛ أذهب وأصف له حالتي أو حالة أي فرد من الأسرة، فيعطيني العلاج.”
هذه العلاقة المباشرة، الخالية من رسوم الكشف والبيروقراطية، أصبحت طوق النجاة للكثيرين. “لا توجد رسوم للكشف أو الفحص، وحتى في الليل يمكننا الاتصال به ليحضر.”، يضيف عبدالمنعم. لكن تجربته الأخيرة مع حمى الضنك كشفت عن عمق الأزمة وتفاني الصيادلة في آن واحد. “عندما أخبرته بالأعراض، طلب مني أن أجري فحصًا، وتبيّن بالفعل أنني مصاب بحمى الضنك. أحضرتُ الأدوية منه، لكن محاليل البندول لم تكن متوفرة لديه، فبحث حتى وجدها وجلبها لي. لم أجد منه أي تقصير.”
في غياب الأطباء والممرضين، وجدت الأحياء نفسها تعتمد على الصيدلي الذي فرضت عليه الحرب دوراً لم يكن في حسبانه. يروي عبدالمنعم قائلاً: “في زمن الحرب هذه، أصبح الصيدلي هو الطبيب والممرض. ورغم أن أسعار الأدوية مرتفعة للغاية، فإن تعامل الصيادلة معنا بالدفع الآجل أو السماح بالدفع على أجزاء خفف عنا كثيراً.”
ذلك الاطمئنان الذي يتحدث عنه عبدالمنعم، لوجود صيدلي قريب ومتوافر، هو ما يبقي على خيط الحياة متصلاً في أحياء حرمتها الحرب من ترف الوصول إلى مستشفى بعيد ومرهق الكلفة.
بين مطرقة النهب وسندان الإهمال
خلف واجهة الصيدليات، يقف صيادلة اختبروا فصولاً من الرعب والتهديد، لكنهم آثروا البقاء إلى جانب مجتمعاتهم في أحلك الظروف. من شرق النيل، تحكي د. سلمى -اسم مستعار حسب طلبها- قصتها لـ(مدنية نيوز) منذ الساعات الأولى للحرب: “حاولت منذ اليوم الأول ألا أتوقف عن العمل. ومع انقطاع الإمدادات الدوائية، لجأت في بعض الاحيان إلى وصف الأعشاب والعلاجات البلدية، فنحن كصيادلة نملك معرفة جيدة بخصائصها. كما كنت أجري بعض العمليات الصغيرة للمدنيين المصابين.”
لكن هذا الدور الإنساني جعلها هدفاً مباشراً. تقول بمرارة: “بسببه تعرضت للنهب في وضح النهار، وهددوني بالقتل، واعتُقلت مرتين من قبل قوات الدعم السريع، وأجبروني على عمل عمليات صغيرة لجرحاهم. وبعد أن أصبحت معروفة لديهم، لم أعد أستطيع المغادرة خوفاً من تهديداتهم.”
وتشير بأسى إلى أن خسائر زملائها كانت أفدح؛ فهناك من فقد صيدليته بالكامل، وهناك من قُتل قبل أن تُنهب صيدليته، فيما حوّلت قوات الدعم السريع بعض صيدليات إلى ارتكازات ومكاتب، حسب الصيدلانية.
ورغم شعورها ببعض الأمان في الوقت الراهن، تستمر المعركة على جبهة أخرى. حيث تضيف أن انقطاع الكهرباء حتى الآن يشكل تهديداً حقيقياً لسلامة الأدوية. الكثير منها فقد فعاليته أو تراجعت جودته، و بعض الأدوية أوقفت استخدامها نهائياً لأنها تحتاج إلى التبريد. الكبسولات الجيلاتينية مثلاً أصبحت لزجة وغير صالحة، نتيجة طبيعية للحرارة “وحتى الأنسولين أظنه فقد فعاليته، لأن المرضى يتناولون جرعاتهم لكن مستوى السكر في دمهم يظل مرتفعاً. هذا الأسبوع وحده، توفي ثلاثة أطفال مصابين بالسكري.”
وفوق هذه المعاناة، تأتي الضغوط من جهة يُفترض أن تكون سنداً. تقول بغضب: “مجلس الصيدلة والسموم لم يراعِ الظروف. هناك صيدليات فقدت كل شيء، ومع ذلك أُجبرنا على دفع 750 ألف جنيه لتجديد الرخصة، وأصدروا قراراً بأن آخر يوم للتجديد هو 21 سبتمبر، وإلا تعتبر الرخصة ملغاة. ووفقاً لقرارهم، رخصتي الآن بالفعل لاغية.”
صيادلة دارفور: دولة جديدة ومعاناة متجددة
في نيالا، يصف الصيدلي عمار آدم واقعاً لا يقل سريالية. يقول لـ(مدنية نيوز): “مشاكلنا كثيرة، أولها فرض رسوم جديدة للتسجيل وتجديد الرخص، حتى إننا اضطررنا لإعادة تسجيل اسم العمل من جديد. قال لنا الموظف: هذه دولة جديدة، ولا نعترف بتسجيل الدولة السابقة.”
في ظل هذه “الدولة الجديدة”، أصبحت الأدوية المهربة هي الأساس؛ فمعظم الأدوية التي يتعامل بها مهربة من الهند عبر الجنوب أو من دول أخرى.
“الأدوية التي تحتاج تبريد أنا لا أعمل فيها لأنها غير مضمونة وأسعارها فلكية. عبوة الأنسولين تصل إلى 20 ألف جنيه، وهذا إن وصلت محفوظة بشكل سليم، وهو شيء لن يفعله المهربون”.
ويوجه الصيدلي نداءً عاجلاً: “أناشد المنظمات لتوفير الأمصال المعدومة تماماً، وعلى طرفي الصراع السماح بعبور الأدوية وفق بروتوكول يضمن وصولها بسرعة، خاصة مع ظهور حالات الكوليرا والملاريا”. ويختتم حديثه بأمنية تمثل صوت كل الصيادلة: “الواقع صعب ولا يوجد حل غير وقوف الحرب. هذا كل ما أدعو له في يوم الصيادلة العالمي”.
انهيار المنظومة الدوائية: المُهرب والمغشوش يقتل بصمت
غادر عادل أحمد السودان بعد اندلاع الحرب، تاركًا خلفه مسيرته كصيدلي في إحدى شركات الأدوية، وانتقل للعمل في إدارة إحدى شركات النظافة بإحدى دول الخليج. رغم بعده الجغرافي، ظل همّه الأكبر حماية المرضى وزملائه الصيادلة الذين فقدوا وظائفهم وتشردوا نتيجة انهيار القطاع الدوائي، وهو ما يعكس حجم الكارثة التي يواجهها النظام الصحي في البلاد؛ حيث تقول تقارير عديدة إن بقاء بعض الشركات كان بحلول صعبة، مثل إدخال شركاء جدد أو نقل عمليات التصنيع للخارج، وصار السوق المحلي، يعتمد بدرجة كبيرة على الأدوية المهربة، وهو ما يعرّض آلاف المرضى، خصوصًا الأطفال وأصحاب الأمراض المزمنة، لمخاطر صحية مباشرة.
في حديثه لـ(مدنية نيوز)، يوضح عادل حجم الأزمة من منظوره الشخصي: “قلقي الأكبر ليس عليّ فقط، بل على جميع الصيادلة الذين فقدوا وظائفهم، وأسرهم، والمجتمع الذي أصبح يعتمد على الدواء المهرب غير المضمون.” ويؤكد أن الحلول العاجلة لا تقتصر على توفير الأدوية، بل تتطلب تنسيقًا أفضل بين وزارة الصحة والمنظمات لضمان وصول الدواء وحمايته من النهب والفساد، في ظل واقع صحي هش يهدد حياة الآلاف يوميًا.
شهادات الصيادلة ليست سوى انعكاس لانهيار شبه كامل للقطاع الدوائي؛ فوفق تقارير مهنية، تعرضت 216 صيدلية في الخرطوم للنهب، وتضرر 50% من مصانع الأدوية. وفي هذا الفراغ، نشأت سوق سوداء خطيرة، حيث أصبحت الأدوية المهربة من دول الجوار المصدر الرئيسي.
حتى الأدوية التي كانت تُوزع مجانًا، مثل علاجات الكوليرا والملاريا وحمى الضنك، أصبحت تُباع بأسعار باهظة، مما يترك الفئات الأضعف تواجه الموت في صمت، حسب عادل .
“هذا الواقع يكشف هشاشة المنظومة الصحية بأكملها، ويجعل المجتمع عرضة لأزمات مستمرة ما لم تتدخل السلطات المحلية والدولية بشكل عاجل وفاعل” عادل صيدلي سوداني.
مستقبل المهنة في مهب الريح
“في يومهم العالمي، لا يطلب صيادلة السودان الاحتفال، بل يطلبون الحماية والأمان والقدرة على أداء واجبهم”. خريج صيدلة جديد.
وسط هذا الدمار، يجد الجيل الجديد من الصيادلة نفسه في حالة من الضياع. عمر عثمان خريج جديد يشرح لـ(مدنية نيوز) العقبات البيروقراطية التي تمنعه من ممارسة مهنته، بعد التخرج، يسجل الخريج في المجلس كصيدلي” تسجيل تمهيدي”، لكن هذا التسجيل لا يتيح له العمل. الصيدليات تشترط التسجيل الدائم، الذي يتطلب إكمال فترة امتياز وامتحان”.
المشكلة الكبرى، حسب قوله، هي أن المجلس الطبي لم يفتح باب التسجيل الجديد ولا توجد خدمات متاحة. هذا الوضع يترك الخريجين في طابور انتظار طويل، عالقين بين التخرج وسوق العمل، بلا دخل أو أمل. وإذا حالفهم الحظ وتجاوزوا كل هذه العقبات، فإنهم يواجهون واقعاً اقتصادياً قاسياً، حيث يتراوح مرتب الصيدلي ذو الخبرة في هذه الظروف بين 400 إلى 500 ألف جنيه سوداني، حسب الخريج وهو مبلغ ضئيل في ظل التضخم الهائل.