المحاصصة في السودان.. غياب للكفاءة أم احتواء للتنوع أم معوق لبناء الدولة المدنية؟ (1)
تحليل: حسين سعد
في قلب المشهد السياسي بالسودان، تبرز ظاهرة المحاصصات في السلطة كواحدة من أبرز الظواهر التي تُشكّل ملامح الحكم والسيطرة على مفاصل الدولة ،وتعتمد المحاصصات السياسية على توزيع المناصب والموارد بين الأطراف السياسية المختلفة على أساس طائفي أو عرقي أو حزبي، تمثل في ظاهرها محاولة لضمان التوازن والتوافق بين مكونات المجتمع المختلفة، ولكن، تحت هذا الغلاف الظاهري الذي قد يبدو وكأنه يهدف إلى تحقيق العدالة التمثيلية والمشاركة السياسية، تختبئ تداعيات معقدة تؤثر بشكل مباشر على إستقرار النظام السياسي والدولة ككل.
تكريس للإنقسامات:
عندما تفرضإ المحاصصات، كآلية وحيدة لتوزيع السلطة، تعيق بناء المؤسسات القوية والفعالة، وتفتح الباب أمام تراجع معايير الكفاءة والجدارة، كما تكرّس للإنقسامات والصراعات بين المكونات المختلفة بدلاً من تسويتها، فهي غالباً ما تؤدي إلى ولاءات مفرطة للطائفة أو الحزب على حساب الولاء للدولة ومؤسساتها، مما يخلق حالة من التوتر المستمر والاحتقان الاجتماعي، في الوقت ذاته، تغذي المحاصصات شعوراً بالغبن والإقصاء لدى الفئات أو الجماعات التي تُهمل في هذه المعادلة، مما قد يدفعها إلى التمرد أو الانسحاب من العملية السياسية، وبالتالي زعزعة الاستقرار السياسي والأمنيعلاوة على ذلك، تُعد المحاصصات عقبة رئيسية أمام الإصلاح السياسي والاقتصادي، حيث تميل الأطراف المستفيدة من هذا النظام إلى مقاومة أي تغييرات قد تهدد مواقعها ومصالحها، ما يؤدي إلى تجميد المشاريع التنموية وتعطيل مسيرة البناء الوطني. ومن هذا المنطلق، يصبح من الضروري إعادة النظر في هذا النموذج السياسي، والتساؤل حول مدى فعاليته في تحقيق الإستقرار الحقيقي والديمومة السياسية، مقارنة بالنماذج التي ترتكز على الكفاءة والمساءلة والتمثيل العادل دون تمييز.
بيانات نارية:
في قلب التحولات السياسية التي يشهدها السودان، تقف ظاهرة المحاصصات كأحد أبرز التحديات التي تعيق بناء دولة المواطنة والعدالة والمؤسسات، فقد تحولت فكرة تقاسم السلطة، التي كان يُفترض أن تكون آلية انتقالية مؤقتة لضمان الشراكة السياسية، إلى أداة لتكريس النفوذ، وتوزيع الغنائم، وتقسيم البلاد على أسس جهوية وقبلية وحزبية، بعيداً عن الكفاءة والمعايير الوطنية، وتكفي نظرة خاطفة للتراشق الإعلامي وحرب البيانات والتصريحات النارية الذي شهدته الساحة السياسية حول توزيع كيكة السلطة بالسودان، ويصف خبراء العلوم السياسية نظام المحاصصات بانه ليس مجرد توزيع مناصب، بل هي خطر حقيقي على وحدة الدولة وإستقرارها، حيث تُضعف مؤسسات الحكم، وتُغذي الصراعات، وتفتح الباب أمام مزيد من الإنقسامات والتجاذبات، وما لم يتم تدارك هذا المسار التصادمي، فإن البلاد ماضية نحو مزيد من التفكك، وقد تصبح رهينة لصفقات ومحاصصات وترضيات بدلاً من أن تكون وطناً لكل السودانيين.
كيان هش:
فالمرحلة المقبلة تتطلب مواجهة شجاعة لهذا النهج، والعمل على إعادة تعريف مفهوم السلطة على أسس الديمقراطية، والمواطنة، والمصلحة العامة، بعيداً عن منطق (من معنا ومن ضدنا) فالسودان لا يحتمل مزيداً من التمزق، وإذا لم نقطع مع المحاصصات الآن، فإن ثمن الغد سيكون فادحاً، لانه وببساطة فأن إستمرار المحاصصة كقاعدة لإدارة الشأن العام في السودان يعني تعقيد الأزمة بدلاً من حلّها، إذ تُفرغ الدولة من مضمونها الوطني، وتتحول الحكومة إلى (كيان هش)، خاضع لموازين قوى لا تعكس الإرادة الشعبية، بل تُعبّر عن توازنات قسرية بين جماعات مصالح، لذلك يصبح الإصلاح الإداري والعدالة الانتقالية والتنمية المتوازنة رهائن لتجاذبات الفاعلين السياسيين، الذين ينشغلون بتوزيع الوزارات والمناصب أكثر من إنشغالهم ببناء السلام أو معالجة آثار الحرب أو إعادة إعمار ما دمرته النزاعات، وما يُثير القلق أكثر هو أن المحاصصات تخلق بيئة تحكمها ثقافة الولاء بدلاً من الكفاءة، وتشجع على الفساد السياسي، وتُهمّش الكفاءات الوطنية غير المنتمية إلى شبكات النفوذ، وهذا بدوره يقوّض ثقة المواطنين في العملية السياسية، ويعمّق الإحباط الشعبي، ويفتح الباب أمام الإنفجار الاجتماعي أو عودة الديكتاتورية باسم (الإنقاذ من الفوضى).
فضائل متصارعة:
إن المستقبل في السودان لن يُبنى على توازنات هشّة بين فصائل متصارعة، بل على رؤية وطنية شاملة تُعيد الإعتبار للمواطنة المتساوية، وتؤسس لدولة تقوم على القانون والمؤسسات، لا على مراكز النفوذ والمحاصصة، حال إستمرار النخب السياسية في إدارة البلاد بعقلية الصفقة لا المشروع، فسيضيع السودان مرة أخرى بين تقاطع المصالح وصمت الضمير، ولعلّ من أخطر ما تفرزه المحاصصات في السودان هو تعطيل مشروع الدولة الحديثة، وعرقلة بناء جيش وطني موحد، وقضاء مستقل، وخدمة مدنية مهنية، فكل مؤسسة تُقسم وتُقزّم لصالح قوى تتعامل مع الدولة كملكية خاصة، لا كجهاز يخدم الشعب بأكمله وهنا، تصبح السيادة مجرّد شعار، والوطنية لافتة للاستهلاك الإعلامي، فيما الواقع السياسي تحكمه صفقات لا وطن فيها ولا مستقبل، وإذا لم يتوقف هذا النهج، فإن مآلاته قد تكون أكثر خطورة من الحرب نفسها، لأن المحاصصة لا تُنتج حلولاً، بل تُعيد إنتاج الأزمات، وتُقنّن الانقسام، وتجعل أي تغيير مستقبلي رهناً بإعادة توزيع الكعكة.
أزمات جديدة:
لا إصلاح النظام، بلادنا المثخنة بالجراح والحرب هي بحاجة إلى تحوّل جذري في الفهم السياسي من منطق تقاسم النفوذ إلى منطق بناء الدولة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال حوار حقيقي، يُفضي إلى عقد اجتماعي جديد، يُنهي المحاصصات، ويُرسّخ مبدأ المواطنة، ويُعيد السلطة إلى يد الشعب عبر انتخابات نزيهة ومؤسسات شفافة، لانه لا سلام دائم، ولا ديمقراطية مستقرة، ولا عدالة ممكنة في ظل محاصصات تُعيد تدوير الفشل، ومن يراهن على المحاصصات كوسيلة لضمان الإستقرار، يخدع نفسه ويخدع الشعب، لأن هذا المسار لا يقود إلا إلى مزيد من التفكك والتناحر، لقد أثبتت التجارب السودانية، في كل إتفاقيات السلام من (نيفاشا -الدوحة – أبوجا -جوبا- القاهرة ، وحتى مسارات ما بعد الثورة) أثبتت أن تقاسم السلطة دون مشروع وطني مشترك لا يصنع سلاماً ولا يبني دولة، بل يُسهم في تفريخ أزمات جديدة، ويزيد من تغوّل مراكز النفوذ وتهميش القواعد الشعبية.
حصص ومقاعد:
في الواقع، إن أكبر خسارة تسببها المحاصصات هي فقدان الأمل لدى الأجيال الجديدة، التي ترى بوضوح كيف يتم إختزال الوطن إلى حصص ومقاعد، فيما تُرك مستقبلها معلقاً بين فشل الساسة وخذلان النخب، وعندما يشعر الشباب بأن لا مكان لهم في وطنهم ما لم ينتموا لحزب أو جهة أو قبيلة، فإننا نكون قد فشلنا في أهم معركة، وهي معركة بناء الانتماء الوطني والعدالة الاجتماعية، فالمحاصصة لا تصنع وحدة، بل تُرسّخ الانقسام وتُكرّس عقلية (نحن وهم)، وتفتح الباب أمام إحتمالات اإانفصال والإنهيار، كما حدث في تجارب سابقة داخل السودان وخارجه، وإذا لم نعالج هذه القضية ، فإن كل محاولة لبناء السودان الجديد ستنهار عند أول امتحان سياسي أو عسكري، فاليوم، يقف السودان على مفترق طرق إما أن نختار طريق المواطنة والمؤسسات والعدالة، وإما أن نستمر في دوامة المحاصصات التي لن تقود إلا إلى إعادة إنتاج الدمار تحت مسميات جديدة، لذلك يجب أن يعلو الصوت الوطني الصادق يجب أن يعلو الآن أكثر من أي وقت مضى، ليقول بوضوح (كفى) محاصصات، (كفى) متاجرة بالوطن،( كفى) تجاهلاً لصوت الشارع، فالوطن أكبر من أن يُختزل في اتفاق نخبوي أو صفقة سياسية، فالخروج نفق المحاصصات هو الشرط الأول للنجاة، وإنقاذ ما تبقى من السودان قبل أن يُصبح وطناً بلا ملامح، ولا مؤسسات، ولا مستقبل.. (يتبع)