رحيل الخالد منصور.. ما بين سندان الجائحة الصحية ومطرقة الجائحة السياسية
بقلم: محمد الصحابي
يظل منصور خالد، علامة فارقة في الفكر السياسي، ورقماً يستحيل تجاوزه في عملية تشخيص المشكل السوداني، يُضاف إلى ذلك رفده للمكتبة السودانية ولمحتوى لغة الضاد بعديد المؤلفات التي تتسم بالرصانة وجزالة الإسلوب وعمق التحليل، فلن تجد له مؤلفاً يقترب للضعف، وهذه ميزة يكاد يتفرد بها هذا المنصور في عالم الكتابة السياسية، فكتاباته تستند على اللغة الأدبية الرفيعة، حيث أجاد وأبرع مداد يراعه في إطروحاته ومقارباته بأسلوب لا يُمل، أميل إلى حد الإندهاش في عالم مُتسارع أصبحت الدهشة لا وجود لها فيه وفق تقديري الخاص مما شكل منظومة بصمته الكتابية الخاصة.
شخص بهذا الكم الرفيع من الإنتاج، وإنغماسه بعمق في المشهد السياسي السوداني، على إمتداد مسيرته وإنخراطه في العمل العام، من الطبيعي أن يتعرض للنقد سالبه وموجبه، وأن تطاله الاتهامات التي ارتقت حد الوسم بالتخوين والتخابر، وشهدنا في فترة حكم إتفاقية نيفاشا إحدى المحاكم في هذا الخصوص ولم تصل إلى نهايتها لتدخل الأجاويد آنذاك تقريباً، مجمل ذلك جعل منه شخصية مثيرة للجدل من الطراز الرفيع، ولكن تظل الحقيقة الساطعة التي لا جدال حولها هي تميُز إنتاجه وإبداعه اللامتناهي، فيفرض علينا أن نوصفه بالفنان الذي يُجيد الرسم بالحروف في المجال الكتابي الإبداعي، فيجترح فنه الخاص ليُزاحم به عالم الفنون.
فُجعنا بفراق هذا المنصور الخالد بالأمس، له الرحمة والمغفرة، في ظل واقع متداعٍ ومتشابكٍ، يتراوح ما بين سندان الجائحة الصحية ومطرقة الجائحة السياسية، فالبشرية يتهددها وباء (كورونا) الذي أسر العالم ونشر الرعب وخلف الآهات وسيّل الدموع بحصاد الأرواح، وما زالت آلته المروعة تحصد الأنفس، وفرض سطوته على الواقع الدولي ككل، فهدد السلم والأمن الدوليين، فالتحية للجيش الأبيض على إمتداد الكون وهم مرابطون بإقدام وشجاعة نادرتين على خط النار، يتصدون بكل مسئولية له لحمايتنا من هذا الـ(فيروس)، ومازالت تداعياته تتصاعد بتسارع على مدار الثانية والدقيقة وتطال كافة الأصعدة حد الانهيار، وتلك مدعاة للبحث العلمي والتشخيص والتمحيص العميق، وبرحيله المُر هذا تركنا في مدلهم خطوب جائحتنا السياسية واشتداد تعقيداتها، التي تعج بالأزمات الخانقة على كافة الأصعدة.
إرتقى إلى ربه بعد مسيرة عامرة بالبذل والعطاء، تقلد فيها عديد المواقع، منها كما هو معلوم السيادي والخدمي والسياسي، والبلاد تشهد صراع الانتقال المحتدم إثر ثورة جلجلت العالم بتفردها وفرضت نفسها بسلميتها في مصاف الثورات العظيمة على امتداد التاريخ والحاضر وربما المستقبل، فرغم هذا الزخم الثوري الذي فرض على بعض المفكرين الغوص في تحليلها، وجعل رؤساء الدول يُصرحون ويشيدون بها علانية، والبعض يتآمرون ضد هذه الثورة المستمرة من تحت الطاولات، عبر من يحسبون حسابات فطيرة وموغلة في الذاتية للانقضاض عليها، أو عبر من ينحنون بوقاحة في سوق المزاد السياسي، للانخراط في منظومة وأدها، فالدافع أكثر لهم هو الذي يكسب الرهان!، فيحسم موقفهم ويوجه بوصلتهم كيفما يشاء، فيصروا مشاهير السمسرة السياسية!،
فيتراصون ويتبارون نحو حجز مقاعدهم باكراً في هذا السوق المحموم!، فهم من طينة الذين لا يعرفون عن المبادئ شيئاً إلا مسوحها!، ولا عن القيم السامية النبيلة إلا قشرها!، ولا يعلمون أنهم مُصابون بداء نقص المناعة الوطنية، فيتوهم لهم أنهم عباقرة العمل السياسي، كما لا يدركون أنهم أبالسة تخريب الأوطان بتفانٍ منقطع النظير، وأنهم عار يُنفر منه الشرفاء، أياً كان موقعهم يميناً أو وسطاً أو حتى يساراً لا يهم في شئ!، وفيهم من يدعي الثورية أو يُزايد بها، ومن يتبنى الإسلام السياسي الذي أذاق البلاد ويلات الدمار، أو من ينتهج النهج الديمقراطي، فكلاهما سيان، طالما المواقف متسقة وينهلان سوياً من رجس القوة المضادة للثورة، ويخدمانها بوعي وإدراك أو بغير ذلك، فالأفاعيل وحدها هي التي نحتكم إليها، وليس إلى معسول الكلام!، وكثير فارغ القول المستهلك، الذي لن يجدي فتيلاً مع وقائع الأمور وحقائقها، وقرائن الأحوال والموقف من الالتزام الصارم بأهداف الثورة.
لو كان الأمر بإستطاعتنا لمددنا للمفكر الدكتور منصور خالد في الأيام برهة من الذمن ليمحص ثورة ديسمبر المجيدة، فيكتب خاتمة مسك سفره الأخير في هذا المشهد، قبل إنتقاله إلى الرفيق الأعلى، ولكن ليس بمقدرونا فعل هذا!، فنم هانئاً في مرقدك بسلام.. ولكن سنسترشد بكتابتك العميقة في الشأن السوداني التي تحتاج إلى إعمال التنقيب فيها والمدارسة حولها وسبر أغوارها، وسنبذل قصارى جُهدنا في تأسيس الدولة السودانية على أسس تكفل للجميع الاحتفاء بتنوعه الديني والثقافي والعرقي والإثني، مهما كانت التحديات، لننطلق من هذه المنصة التأسيسية إلى آفاق الحرية والسلام والعدالة.
رغم أننا في مرحلة حاسمة من عمر الوطن، تشهد اختلالاً بالغاً ومشهداً مرتبكاً حد ضبابية الرؤى، فضلاً عن الشتات الذي بدأ ينخر في الكتلة الثورية، بدلاً عن تماسكها وتمتينها كواجب مقدم، حيث تعلو فيها الحسابات الضيقة وتتقازم فيها الحسابات السامية، وفق نهج التعامل بمسئولية والترفع عن الصغائر، والمكاسب الآنية، لتخطي هذا الواقع إلى بر الانتقال الديمقراطي، زيادة على ذلك خفوت الأصوات التي تلتزم جانب الإعلاء من شأن الهم الوطني بتجرد وموضوعية، جنباً إلى جنب التمسك بمبدأ التغيير الجزري دون أدنى مساومة، وتتبنى رؤية التأسيس لتحول ديمقراطي حقيقي، بُذلت في مساره جسام التضحيات، واقع انتزعه الشعب المعلم عنوة واقتداراً من براثن عصبة التمكين المأفونين، الذين جثموا على صدر الوطن ثلاثون عاماً حسوما من الهدم! تلاحم فيه الشعب السوداني في صمود مُذهل ضد الرصاص والتقتيل مع سبق الإصرار والترصد وحرق القرى والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وانتهاك كافة حقوق الإنسان والتنكيل وإستباحة العروض دون أي وازع ديني كما يتمشدقون!، أو أخلاقي كما يزعمون، والإغتصاب ورميهم للجثث في النيل، رغم هذه الأعمال التي لا تمُت للإنسانية بصلة، تماسك هذا الشعب في خطه الثوري بقوة الإرادة وصلابة العزيمة فشكل دولة الحُلم المنتظر في ملحمة اعتصامه الباذخة، التي نتنسم ذكراها الأولى رغم نهايته المأساوية، ونذكر من هتافاتها (صايمين رمضان من غير كيزان) وتراص في مواكب تقدمها ثواره، بجسارة كنداكاته وببسالة (شفاتته) عصب لجان المقاومة التي لا تُساوم على المبادئ الثورية، بل تُقاوم حد الرمق الأخير من الحياة دون وجل، وارتقت في سبيل ذلك غالي الأرواح إلى الرفيق الأعلى (المجد والخلود لهم) وسطروا أروع مشاهد البطولات فداءً لاسترداد سيادة البلاد وعزتها وكرامة الشعب السوداني، وفي خضم ذلك فقد البعض أعضاءهم الحيوية لهم تمام الشفاء، وفقدنا أعزاءً لنا من شرفاء الوطن، ومازلنا نبحث عنهم متمسكين بالأمل والعودة لحضن الوطن!، تلك طموحاتهم وآمالهم التي لم تفارقهم حتى آخر قطرة من دمائهم، وحتى آخر شهقة من لفظ أنفاسهم على حجارة الترس، أو اختراق الرصاص لصدورهم من قُبل لا من دُبر!، فحُملنا مسئولية عظيمة تجاههم، تستند على القصاص الذي لا تراجع منه قيد أنملة، وانتشال الوطن من كرب وهدته، ولكن هل نحن من في المشهد الآن على قدر هذه الأمانة؟، وهل نتمسك بهذه الآمال التي أجمع عليها جموع الثائرون ضد النظام الإسلاموي الإستبدادي البائد؟، وهل سنتلهم العبر والدروس من واقع تجربتنا العملية خلال الأشهر البسيطة بعد تشكُل حكومة هذه الثورة العظيمة؟، وما راكمناه من لحظة تفجر الحراك الثوري؟، فضلاً عن تجارب ثوراتنا وانتفاضاتنا المجُهضة السابقة؟ (أكتوبر وماريل)،يُضاف إلى ذلك التجارب الإقليمية الوئيدة.
فهلا إرتقينا إلى قمة المسئولية التاريخية؟، وحاسبنا دون أدنى مجاملة لكل من لا يلتزم بالخط الثوري الصارم، إن كان يتنسم موقع تنفيذي، وبلا محاباة إن كانوا في مواقع قيادية سياسية، لمن يُحاولون شدنا للخلف بأفاعليهم ومواقفهم المخزية، التي تُعطل مسيرة الثورة وتُبطئها، والتي تتضاد ومشروع التغيير الجذري.
هذا الهرم المنصور الخالد الذي غيبه الموت يمكننا أن نجعل من مراسم عزائه لتتسق ونهجه الذي يهتم بأمهات القضايا، كمدخل تقييمي ومراجعة شاملة لأداء كافة الكتلة الثورية بمختلف مكوناتها، فنُشخص واقعها بتجرد إن كنا نطمح للعبور بهذه الدولة؟!، ونتمسك بمصداقية لا تشوبها شائبة بوقوفنا سداً منيعاً ودرعاً حصيناً لها من دائرة الحلقة الشريرة التي تظل إحدى إرهاصات الاحتمالات المفتوحة، لأن البعض مازال يعتمل في تفكيره هذا النهج، ويؤمن به كأداة تُحقق طموح انتهازيته السياسية دون الأخذ في تقديراته لمعطيات المعادلة السياسية، هذا الشعب المرتكز الأساسي للتغيير الذي لا تنكسر إرادته والذي يصعُب مِراسه أو خداعه، بعد تحولات ومتغيرات هذه الثورة الوطيدة، التي تغوص جذورها في عمق أعماق الثبات، فضلاً عن الشوارع التي لا تخون!.
نُشيعك أيها المنصور الخالد إلى مثواك الأخير، ونحن نخطو إلى مرحلة الفرز الثوري الدقيق من عمر استمرارية ثورة ديسمبر المجيدة، والتي كلما تخطينا مرحلة تسقط منها بلا رحمة من يتآمر ضدها، أو هم يتساقطون عند بلوغهم محطة نضالهم قصيرة الأمد!، استناداً على ذلك، في تقديري بأن المدخل السليم للعبور بهذه البلاد هو التوافق حول رؤية عملية وعلمية من واقع تجربتنا الثورية، وفق ترتيب للأولويات بإحكام دقيق تتوافق عليها كافة الكتل الثورية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير، ترتكز على استكمال أهداف ومهام ثورة ديسمبر المجيدة، فبخلاف ذلك سنجني السراب، وسنخون عهدنا وميثاقنا للشهداء الكرام، فالوفاء لهم باستمرارية الثورة وصولاً إلى غاياتها المرجوة، حينها سنكتب قصة الانتصار هذا لنرفد به مشروعك التحليلي الكتابي، لنحتفي به مع خلودك المعظم بأعمالك والمخلد في سفر الوطن.
فالصبروالسلوان لأهلك ولأصدقائك ولمعارفك، فلتتنزل عليك شآبيب رحمته وصادق التعازي للوطن، ووداعاَ أيها الخالد منصور خالد.
خارج القوس :-
وإن ما كضب ..
يسألنا الله ..
عن الوطن ..
قبل أيِّ شي ..
اللّه
الوطن ..
مش وزعو ..
وخلق البيفصح ..
والرطن ..
وراهو ما معنى أصبعو ..
وقيمة وشي ..
حتّان نزل ..
دينو الحنيف ..
الشرعوا ..
خلُّوني في رزقي ..
الجحيم ..
واتهنوا بي ذات
النعيم ..
واستمتعوا ..
ولاّ ..
أسـمعوا ..
مبسوطة بي عشقي
القديم ..
وآب ينهرد ..
شان أجضعو ..
وبالزي دا ..
وصَّاني الحسين
أتبع كُتر ..
ولاَّ أتبعو ؟؟
أنا لي وطن
ويحيد ..
وما أرضى أضيعو ..
لبة صراعي ..
أكونو أنا ..
وفي إيدي زماني ..
مطوعو ..
عود نار ..
عشان الخوة ..
تنجض بي هداوة ..
نولِّعُو ..
لا أحتمل عينين جنايا
يدمعو ..
بس مش كمان
تحت الحنان الفاوة ..
أربِّي مدلعو ..
(حميد)
مقاطع من قصيدة الرجعة للبيت القديم.
الثورة مستمرة.