الذهب.. ثراء الدولة وفقر المواطنين
تحقيق: محمد إبراهيم
عقبات عدَّة، ومشكلات بنيوية وهيكلية متوارثة من النظام المخلوع، تَحول دون استفادة الحكومة السودانية من الإنتاج الضخم لمعدن الذهب، خاصة وأن السودان هو الدولة الثالثة في أفريقيا من حيث إنتاج الذهب، بعد جنوب أفريقيا وغانا، خلال السنوات الخمس الماضية. وطبقاً للمصادر الرسمية يُقدر الإنتاج ما بين (100 و250) طناً.
وحسب تقريرٍ لوزارة الطاقة والتعدين، بلغ إنتاج الذهب عام 2019م حوالي (60) طناً مترياً. وتوقع التقرير أن يبلغ الإنتاج بنهاية عام 2020م نحو (120) طناً. وعلى الرغم من هذا الإنتاج الذي يُوصف بالضخم، إلا أنه لا ينعكس على تحسين حياة المواطنين الاقتصادية الذين يتَّسم حال أغلبهم بالفقر، لوجود العديد من الثغرات التي تعتري إنتاجه العقبات. وبمقدور عوائد حصائل الصادر أن تسدَّ العجز في الميزان التجاري، وتعمل على تقوية الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية.
أين يكمن الخلل؟
ما هي أبرز التحديات والعقبات التي تواجه قطاع التعدين؟ وكيف يمكن معالجة قضية التعدين التقليدي ومعالجة الاختلالات فيه؟ ولماذا تدهورت الشركات الحكومية القابضة (أرياب، سودامين)؟ وما هي توصيات المؤتمر الاقتصادي في هذا القطاع؟ وهل ستنفذ؟ وما هي مشكلات التحصيل في التعدين التقليدي؟ وما هي تلك الجهات التي تشتري الذهب بأكثر من أسعاره العالمية؟ وإلى متى يستمر تهريب الذهب؟
التعدين التقليدي
كان وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السوداني السابق إبراهيم البدوي، قد أعلن في تصريحات صحفية سابقة أن عائدات تصدير معدن الذهب المنتج عبر القطاع (الأهلي) في البلاد ستتراوح ما بين (5-7) مليارات دولار أمريكي خلال العام 2020. وحسب إحصائيات الوزارة عن التعدين التقليدي فإنه يُشكِّل (80%) من إنتاج البلاد من الذهب، ويعمل فيه أكثر من (3) ملايين في مختلف الأنشطة.
(مافيا الذهب)
ومن جانبه قال المدير السابق للشركة السودانية للموارد المعدنية د. يوسف محمد، في تصريح لـ(مدنية نيوز) أمس الأول: (كل النظام في قطاع التعدين بما فيه الشركة السودانية للموارد المعدنية مُصمَّم من أجل الفساد وخدمة مصالح مافيا الذهب).
وشدد يوسف، على أن النظام الذي تتبعه الوزارة لا يمكنه أن يُوقف التهريب والفساد وأن الدولة لا تستفيد من المعدن النفيس، وأضاف: (المستفيدون من هذا الخلل قلة وهم مستفيدون من هذا الفساد)، ونبه إلى أن الشخصيات القيادية التي تم وضعها لا يمكنها أن تحل مشكلة قطاع التعدين، وأشار إلى أنهم يشكون أكثر مما يعملون وأنهم غير مختصين في المجال.
وتابع أن أسعار الذهب في البلاد غير حقيقية، إنما تعود للمضاربة في الدولار وتحويل العملة المحلية إلى ذهب، ولفت إلى أن سعر الجرام في البلاد يتجاوز أسعار البورصة العالمية.
وكشف المدير السابق للشركة السودانية للموارد المعدنية، عن توصية قد دفع بها إبان توليه المنصب بأن يتم إنشاء إدارة عامة للرقابة والإشراف تكون مستقلة تحت إشراف الوزير، ويستعينوا بشخصيات قوية تضم فنيين، محاسبين وغيرهم. وتتمثل مهمة هذه الإدارة في الإشراف المباشر على الشركات منذ التوقيع وحتى استخراج الذهب.
وكشف المدير السابق عن فساد مُمنهج في الشركات قبل عملية إنتاج الذهب، وأضاف: (عندما كنت مديراً تأتي إليّ الشركات بطلبات كبيرة لاستيراد احتياجات من الخارج، تكون أعلى بضعفين من سعرها الحقيقي ويكون السعر بالدولار، وعندما تستخرج الشركة الذهب تسترد منصرفاتها تلك ذهباً).
واعتبر يوسف، أن مظاهر الفساد أيضاً تكمن في أن بعض أعضاء الشركات العاملة في قطاع التعدين ينتمون للوزارة، وزاد: (لا يمكنك أن تراقب وتكون عضو مجلس إدارة في شركة، وحسب لائحة الشركة يتحصل العضو على حافز أو مرتب، وأن هذه اللائحة تمت إجازتها من قبل الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية من أجل أخذ الأموال، ولا يمكنك أن تكون الخصم والحكم)، وشدد على أن ذلك يُعَدُّ من مظاهر الفساد والأزمة في قطاع التعدين، وتمسك بضرورة اختيار وزير يكون مدركاً لكل تلك التناقضات ويعمل على معالجتها، وأردف: (إلا أن المسؤولين الحاليين لا يمكنهم حل الإشكاليات المعقدة).
محنة الشركات الحكومية
ومن جهته قطع وكيل وزارة الطاقة والتعدين د. محمد يحيى في تصريح لـ(مدنية نيوز) بأن الدولة غير مستفيدة من التعدين الأهلي؛ وفي المقابل كشف عن الإشكاليات التي تواجه الشركات الحكومية الكبرى (أرياب وسودامين)، وأبان أن هذه الشركات حكومية وتخضع أغلب أسهمها لوزارة المالية وإشراف وزارة الطاقة والتعدين، وقال: (إلا أنهما تشكوان من مشكلات هيكلية وفنية ومالية كبرى).
وتوقع وكيل الوزارة أن تعلن شركة سودامين إفلاسها في أي وقت وذكر أن كل آلياتها ومصانعها متوقفة بسبب ضعف الأموال منذ بداية العام، بجانب أن أغلب المنتسبين إليها ينتمون للنظام المخلوع، ويفتقرون للمعرفة الفنية بالقطاع، وهم حوالي (83) موظفاً إضافة للمتعاونين. وأشار وكيل الوزارة إلى أن شركة أرياب أيضاً تعاني من مشكلات مالية ولديها العديد من المشروعات بملايين الدولارات متوقفة بسبب الأموال.
وقال يحيى: (شركات الحكومة لا تستطيع أن تعمل بالنظام القانوني المتبع والمتمثل في لائحة الشراء والتعاقد)، ووصف العمل عن طريق الخدمة المدنية بالمعيق، ولفت إلى أن هذه الشركات كانت تعمل إبان فترة النظام المخلوع بطريقة غير قانونية؛ بينما حكومة الثورة تريد العمل وفقاً للقانون؛ ودعا لمعالجة الإشكاليات، ورفض المقترحات التي تدعو لبيع الشركات الحكومية، وطالب في الوقت ذاته بتمويل الحكومة لهذه الشركات أو إيجاد شريك اقتصادي يشارك في الأرباح وليس الأسهم.
عدم تنسيق
وكشف وكيل وزارة الطاقة والتعدين عن إلغاء الوزارة لـ(11) اتفاقاً مع شركات الامتياز لعدم الإيفاء الفني والمالي، وأن الشركات المنتجة (13) و(53) تحت التطوير، واعترف بتقاطعات ما بين الجهات الحكومية، وتابع: (الآن لا أستطيع أن أوفق بين قطاعات التعدين، الشركة السودانية تعمل بمزاجها وكذلك الهيئة العامة، وأنا لست راضياً عن هذا الأداء).
وفي السياق، اتهم مصدر بالهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية – فضل حجب اسمه-، ما وصفها بمافيا التعدين بالاستفادة من ضعف الشركات الحكومية، وأشار في إفادته لـ(مدنية نيوز) إلى أن هناك اتجاهاً قوياً لمنع الشركات الخاصة عن الاستثمار في معالجة (الكرتة) وحصره فقط لشركة سودامين وفتح المربعات للقطاع الخاص والأجنبي.
الرقابة
وفيما يتعلق بالرقابة، أوضح المصدر أن المدير الحالي للشركة السودانية مبارك أردول، خالف قرار الوزير السابق القاضي بمنح الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية صلاحية الرقابة والإشراف على الشركات والتعدين الأهلي باعتبارها الجهة الفنية المختصة، وكان هذا القرار معمولاً به إبان تولي المدير السابق د. يوسف للشركة. واعتبر المصدر أن مسلك أردول، يمكن أن يكون مدخلاً للفساد، ونبه إلى أن تعيين أردول، في هذا المنصب يُعَدُّ تجاوزاً خاصة وأنه تمَّ تعيينه من وزارة المالية بدلاً عن وزارة المعادن باعتبارها الجهة المُختصَّة.
واتفق المصدر مع المدير السابق للشركة السودانية للموارد المعدنية د. يوسف، حول الخلل الهيكلي والإداري، واتهم مافيا أجنبية وقوات نظامية ورأسماليين محليين بالاستفادة من ضعف الوزارة وعدم اتضاح رؤيتها الاستراتيجية للمعدن النفيس.
التعدين التقليدي يعاني
ومن ناحيته قال الصائغ حسن محمد أحمد، الذي يعمل في منجم الصياغ بالبطانة في إفادة لـ(مدنية نيوز)، إن لديه تجربة تتجاوز (5) سنوات في المنجم التقليدي، واعتبر الطريقة التي تراقب بها السلطات المعدن النفيس في المناجم تشوبها العديد من الثغرات التي تؤدي للفساد والظلم وضياع موارد ضخمة للدولة.
وانتقد حسن، الطريقة التي تتحصل بها الشركة من المعدنين التقليديين معتبراً واعتبر أنها أحياناً تظلم المعدن، وفي أحيان أخرى تظلم الحكومة نفسها، وردد: (قد ينتج المعدن 40 جوالاً من الحجارة التي يُستخلص منها الذهب تتحصل منه الشركة 40 ألف جنيه بواقع 400 جنيه للجوال، وعندما يستخلص ذهبه فإنه في بعض الأحيان لا يكفي تكلفة الإنتاج والرسوم التي تحصلها الشركة منه وهنا الظلم وقع على المعدن).
ومضى للقول: (وتظلم الحكومة نفسها في حال أنتجت تلك الجوالات حوالي 4 كيلو جرامات من الذهب ويصبح نصيبها 40 ألف فقط، هنا الحكومة أو الشرطة تكون قد ظلمت نفسها والمجتمع المحلي). وشكا حسن من رداءة الخدمات المقدمة في المناجم، وقال: (على الرغم من مشاركة المعدنين في الاقتصاد ودفعهم للرسوم الحكومية، إلا أن كل هذا لا يعود إليهم في شكل خدمات).
وبدوره انتقد المدير السابق للشركة السودانية، الطريقة التي يتم بها التحصيل من التعدين التقليدي، خاصة وأن الشركة كانت تتحصل من جوال الحجارة ما يعادل جرام ذهب وكانت الشركة تتحصل (200) جنيه حينها كانت تعادل جرام، إلا أن الشركة رفعت التحصيل من (200 إلى 400) جنيه، ونعت ذلك بالخلل، واستند على أن ذلك المبلغ أقل من جرام الذهب، وطالب بأن يكون التحصيل حوالي (7) آلاف جنيه بسعر الجرام (الحالي)، وأشار إلى أنه من العدالة أن تتحصل الشركة من التعدين التقليدي نصيبها عيناً من الذهب.
توصيات المؤتمر الاقتصادي
وفيما يتعلق بتوصيات المؤتمر الاقتصادي استبعد د. يوسف، تنفيذها من قبل الوزارة، وأبان أن من ضمن التوصيات عدم توقيع أية اتفاقيات مع الشركات إلا في حالة إعادة هيكلة القطاع، وذكر أن هذه التوصية ضرب بها عرض الحائط، وقال: (الأسبوع الماضي وقعت الوزارة 7 اتفاقيات)، وتساءل: (هل من مهمة الوزير المكلف أن يوقع؟)، وأوضح أن الاتفاقيات الجديدة تتضمن نفس الاختلال الذي يجابه الاتفاقيات القديمة ونصيب الدولة قديم.
وتضمنت أبرز التوصيات الختامية للمؤتمر الاقتصادي: (أن تضطلع وزارة الطاقة والتعدين بمسؤولية التعاقد والإشراف على الذهب، إدخال جميع الشركات الأجنبية وشركات الامتياز العاملة في مجال التعدين تحت مظلة الرقابة الحكومية وإشرافها، اتخاذ الإجراءات اللازمة لاعتماد مصفاة الذهب دولياً، إنشاء شركات عامة تضم قطاعات التعدين الأهلي والشركات الصغيرة تسهم فيها الحكومة).