حتى متى الموت سمبلا !!
بقلم: خالد فضل
في البدء نترحم على أرواح جميع المواطنين السودانيين الذين راحوا ضحايا واقع غشوم وعقلية لم ترتق بعد لمصاف الوعي بقيمة حياة البشر , نترحم على شهداء الثورة السودانية وآخرهم الشهيد عبدالمجيد ابن حي الجريف شرق الذي لقي حتفه في مواكب 21اكتوبر التي انتظمت عدد من مناطق الخرطوم ومدن سودانية أخرى , انفضت تلك المواكب في الولايات بسلام فيما كانت الخرطوم مسرحا لعمليات كرّ وفرّ بين الشرطة والمتظاهرين , وسقط الشاب عبدالمجيد شهيدا ليلحق بسلسلة طويلة من رفاقه الذين مضوا وهم ينشدون تأسيس وطن لا تراق فيه الدماء ولا يكون فيه نصيب النشطاء القتل بالرصاص أو الاختناق بالغاز أو الدهس بالأقدام والاطارات .
نعم نحلم بوطن يموت فيه الإنسان فقط إذا جاءه أجل الله الذي لا يؤخر دون أن يكون الموت بسبب من نشاطه في الحياة العامة , وجهاز الشرطة بالطبع من أجهزة الدولة ذات القيمة العالية التي لا غنى عنها , ولكن أي شرطة وكيف تكون ؟ كما أنّ الشرطيين/ات هم أناس طبيعيون , منهم العم والخال والأخ والابن والصديق والزميل والجار العزيز , بشر مثلهم مثل أي انسان آخر لهم ما عليهم ولديهم ما يليهم , فما الذي يحولهم في بعض الأوقات إلى أعداء للحياة , هذا سؤال مهم لأنّ اطلاق الرصاصة أو قاذفة الغاز ربما يصيبان شخصا آخرا فيسببان موته أو إعاقته مدى الحياة , فهل هذا من ضرورات المهنة وابجديات التدريب لها , أم هي تقديرات موقف عرضة للخطأ والصواب ؟ ما هي الحدود القانونية والمهنية التي تحكم استخدام العنف الرسمي لأداء المهمة المعنية وما هي الضوابط القيمية والأخلاقية التي يعتبر تجاوزها سببا لتعريض الشرطي وموظف الأمن عموما للمحاسبة والمحاكمة .
إنّ تكرار ممارسة القتل والترويع ضد المواطنين الذين يمارسون حقوقهم الطبعية في التعبير السلمي مما يستحق التوقف عنده مليا لمصلحة الأجهزة الأمنية كمهن مفيدة وضرورية للحياة , ولمصلحة أفرادها والمنتسبين لها كمواطنين ذوي علاقات ممتدة كما سلف الاشارة إليها , ثمّ لمصلحة بقية المواطنين الذين ينبغي أن تكون هذه الأجهزة أسصلا في خدمتهم مثلما كل منتسب لأي مهنة أخرى يخدم المجتمع من خلال دوره الذي يؤديه , فالناس بالناس من بدو وحاضرة بعضهم لبعض وإن لم يشعروا خدم ُ,
هذا ما نرومه عندما ننادي بالدولة المدنية الديمقراطية , دولة يسود فيها حكم القانون الذي يساوي بين الناس ويعدل , فلا يتغول شخص على الآخرين وحقوقهم بحجة حفظ أمنهم وسلامتهم مثلا , فهذا مما لايستقيم عقلا من الأساس , ولعل تجربة بسيطة يمكن أن يجريها كل شخص بمفرده , وليجربها رجل الأمن أو الشرطي تحديدا , خذ ملعقة صغيرة من العسل الصافي , ثم ألوي يد طفلك الصغير أو طفلتك , وقدّم لها باليد الأخرى العسل ليلعقه /تلعقها , ستكون النتيجة أنّ الطفل يلفظ العسل مع القسر , ولكنه قد يستطيب جغمة ماء عادية طوعا , هكذا البشر توق دائم للحرية والتخلص من القيود , وحدود القانون هي فقط منع التعدي على الآخرين .
إنّ مسألة استباحة الدم ورخص الأرواح لدرجة فقدان أرواح في كل موكب أو مظاهرة ليس بالأمر السهل , لابد أنّ خللا كبيرا في العقلية التي تنجب مثل هذه الأفعال , ولابد أن الخلل ربما يغوص إلى أسس التنشئة والتربية والتعليم ومناهج الإعلام , وحتى الأمثال الشعبية التي تستهين بالحياة وحقوق الآخر وتجعل الانتهاكات مثلا سائرا بين الناس مثل القول ( جلدا ما جلدك جر فيهو الشوك) , هذه دعوة لانتهاك حق الآخر في العيش بسلام , المهم في هذه الحالة نفسك !! أليس هذا هو مدلول هذا المثل !
دعونا نتخذ مقتل الشاب عبدالمجيد نقطة بداية لمراجعة مسيرة طويلة من العنف الوحشي الذي مارسه أفراد من مجتمعنا , أهلنا وأرحامنا في النهاية , ليس بغرض التشفي والانتقام منهم ولكن بغرض تصحيح المسار فعلا , لتكن لجنة التحقيق شفافة ومهنية وصريحة في تحديد الواقعة وأوجه الخطأ فيها والتجاوزات من أي طرف ,فليس هناك إدانة مسبقة في الواقعة المحددة ولكن هناك قراءة الشواهد والمواقف الراتبة التي شكّلت سمة بارزة في التعامل الشرطي مع مثل هذه المواقف , هذه توفر شكّا معقولا حول حدوث انتهاك صارخ لأهم حق من حقوق الإنسان ( حقّه في الحياة نفسها) ليحظى بعد ذلك بما يصون ويطور حياته , إنّ كاتب هذا المقال يدين العنف المفرط الذي تواجه به المواكب السلمية , وبالتالي الدعوة لوقف هذا المنف الرسمي واتخاذ كافة الوسائل لمنعه وتحجيمه , ولأننا بصدد بناء دولة حديثة ديمقراطية الإنسان غايتها تصبح حياته هي القيمة الأسمى والأغلى غض النظر عن اختلافه أو اتفاقه في الرأي مع السلطة القائمة وأجهزتها الرسمية.