بروفيسور إبراهيم البدوي يكتب حول تعويم سعر الصرف
* بقلم: بروفيسور إبراهيم البدوي
ابتداءً أهنى حكومة الثورة على اتخاذ هذا القرار الهام ولكن لابد أيضاً من التحسب لمخاطره كما سأوضح أدناه. نظام سعر الصرف “المعوَم” هو أفضل خيارٍ متاحٍ لإعادة التوازن للعملة الوطنية وتقليص العجز الهيكلى في الحساب الجارى وتوحيد سعر الصرف والقضاء على السوق الموازى للنقد الأجنبي في ظل قلة الاحتياطى المتاح للبنك المركزى. وأنا شخصياً كنت قد سعيت بل وناضلت من أجل هذا الإصلاح المحورى منذ منتصف العام الماضى عندما كنت في الوزارة وبعد مغادرتى الحكومة كتبت بإسهاب عن ضرورة اعتماد التعويم في ورقتى الموسومة : ” حول إصلاح الاقتصاد السودانى: الرؤية، البرامج والسياسات، أكتوبر 2020″.
إلا أننى، كما أشرت في مقابلة مع صحيفة التيار الأسبوع الماضى، لابد من التنبيه إلى أن نجاح التعويم مرهوناً بتوفر شرطين أساسيين، سنعرض لهما أدناه. أخيراً، لابد أن تكون هناك خطة تواصل لتوضيح تبعات التعويم في مراحله الأولى.
لكن دعنى أعالج باختصار، لماذا التعويم هو أفضل خيار متاح مقارنة بخيارات أخرى كانت مطروحة؟
إذا أخذنا تثبيت سعر الصرف الرسمي كخيار، يعنى استمرار الوضع القائم. بالمقابل، تبنى نظام سعر الصرف المدار لا محالة سيوفر هدفاً مثالياً للمضاربين الذين سيعملون على وأده في مهده تماماً كما حدث في عهد النظام السابق في العام 2018.
أيضاً، تركيبة الواردات السودانية تجعل من الصعوبة بمكان معالجة العجز الهيكلى في الميزان التجارى باللجوء لحظر الواردات، بالنظر لأن أكثر من 85% من هذه الواردات إما سلع استراتيجية أو مدخلات إنتاج ضرورية. بالتالي لا يمكن معالجة أزمة شح النقد الأجنبي ووضع حد لتدهور قيمة العملة الوطنية عن طريق هذه المقاربة “الهيكلية”. إذن، الخيار الوحيد المتاح هو تعويم سعر الصرف لتصفية السوق الموازى وتحريك “سعر الصرف الحقيقى” لإنعاش الصادرات وإحلال الواردات لجسر هوة تقدر بحوالى 5 مليار دولاراً يتم تمويلها حالياً من السوق الموازى. ماهى الشروط المطلوبة لنجاح التعويم في استقرار وتوحيد سعر الصرف في نهاية المطاف وكذلك وضع حد للتضخم؟
لابد من التحذير بأن التعويم سوف لن يحقق هذه الأهداف، بل قد يحمل معه مخاطر السقوط الحر لسعر الصرف والتضخم الانفجارى إذا لم يتم دعمه باستيفاء شرطين أساسيين:
أولاً، لابد أن يٌمنع تمويل المصروفات وعجز الموازنة بصورة عامة عن طريق الاستدانة من بنك السودان بصورة عشوائية وغير مبرمجة، وهذا يتطلب تقليص عجز الموازنة إلى أقصى حد وكذلك توفير قنوات تمويلية غير تضخمية لإدارة السيولةً.
ثانياً، يجب أن تتحول الدولة إلى بائع صافٍ للنقد الأجنبي لتمويل واردات السلع الاستراتيجية بواسطة القطاع الخاص. يجدر الإشارة إلى أن هذين الشرطين بالغا الأهمية لنجاح التعويم حسب النماذج النظرية لاقتصاد سعر الصرف وتجارب الدول التي نجحت في برامج إصلاح اقتصادى مشابهة. عليه، لابد من العمل على تحقيق هذين الشرطين بالتوازى مع إنفاذ تعويم سعر الصرف وهناك إمكانية كبيرة لاستيفاء هذين الشرطين في حالة السودان عن طريق إصلاحات مؤسسية ناجزة يمكن البحث فيها في مجال آخر.
أخيراً، لابد من خطة تواصل مجتمعى لتوضيح تبعات ومآلات التعويم؟
يجب توضيح تطورات سعر الصرف المعوم للجمهور بصورة شفافة حسب المراحل الآتية (الشكل أدناه):
خلال الفترة ( t0إلى t1) يتسيد السوق الموازى بينما تتوسع علاوة سعر سعر الصرف الموازى مقارنة بالسعر الرسمي الثابت عند 55 جنيهاً للدولار، جزئياً بسبب المضاربة المرتبطة بتوقعات بقرب إصلاح نظام سعر الصرف وأيضاً بدرجة أقل كنتيجة لسعى الجمهور لاقتناء النقد الأجنبي كمخزن للقيمة.
الفترة اللاحقة ( t1إلى t2) والتي يُفترض أن تشهد توحيد سعر الصرف وأيضاً ظاهرة “تجاوز سعر الصرف” أي ارتفاعه بصور متواترة، تعتبر مرحلة قاسية أشبه بالعملية الجراحية اللازمة لاستئصال مرضٍ عضال، حيث تسيطر ظاهرة “تجاوز سعر الصرف” ( إلا أن توفر هذين الشرطين سيخففان إلى حدٍ كبير من وطأة هذه السياسة التي لا مناص منها كما بينت في ورقتى في أكتوبر الماضى).
تتطلب هذه الفترة ( t1إلى t2)، والتي قد تطول أو تقصر حسب توفر الشرطين أعلاه، إرادة سياسية قوية وخطة تواصل مجتمعى توعوية متينة تحظى بدعم السلطة التنفيذية وحواضنها السياسية وتكتسب مصداقية باستعداد السلطات الاقتصادية، خاصة وزير المالية ومحافظ البنك المركزى تحمُل المسئولية السياسية والمهنية الكاملة في حال الفشل في تحقيق الأهداف المتفق عليها.
إذا تيسر الالتزام بنظام التعويم، سينتقل الاقتصاد بحلول التأريخ t2 إلى مرحلة تأسيس التوازن الاقتصادى في الميزان التجارى واستقرار سعر الصرف حول السعر التوازنى المنشود.
* وزير المالية الأسبق – نقلاً عن صفحته على فيسبوك