العدالة وترسانات الرغبة والقدرة أو “محاكمة شهداء الأبيض”
بقلم: محمد بدوي
في البدء لا بد من شكر مستحق لأساتذتي وزملائي الأجلاء أعضاء هيئة الاتهام أمام المحكمة الجنائية العامة بمدينة الأبيض، ولاية شمال كردفان على الجهد والتضامن الخلاق، إذ انتظم بالهيئة حوالي “35” عضواً في تمثيل لمختلف الجغرافيا السودانية، شكّل تلاحماً ارتقى لقامة ثورة ديسمبر المجيدة. تأتي الإشارة هنا على سبيل المثال لا الحصر حيث تولى رئاسة الهيئة الأستاذان عثمان صالح ومحمد الحبيب من مدينة الأبيض، التيجاني حسن ومحجوب داؤود من الخرطوم، عصام محمد فرح “شوربجي” من مدينة كريمة، إسلام عمر من مدينة سنار، محيي الدين من مدينة الدلنج، وأخريات وآخرون لهم ترفع القبعات إجلالاً واحتراماً، إضافة إلى ممثلي مكتب النائب العام مولانا تاج السر الحبر النائب العام السابق في الجلسات الأولى، ثم مولانا مبارك محمود النائب العام المكلف في جلسة القرار، إلى جانب ممثلي اللجنة التسييرية لنقابة المحاميين السودانيين. وتكاملت الجهود في دأب منذ الحدث في التاسع من يوليو 2019 إلى جلسة القرار في الخامس من أغسطس 2021.
خلفية المحاكمة حملتها وقائع البلاغ بالرقم 2637 /2019 عقب مقتل 7 من السودانيين أغلبهم من الطلاب دون المرحلة الجامعية لهم الرحمة جميعاً، نتيجة للإصابة بأعيرة نارية أثناء ممارستهم الحق في التعبير والتظاهر في مسيرة سلمية بوسط مدينة الأبيض من قبل قوة عسكرية مكونة من “9” أفراد تتبع لقوات الدعم السريع التي أخضعتها الوثيقة الدستورية 2019 لإشراف القائد العام للقوات المسلحة السودانية.
في الخامس من أغسطس 2021 أصدرت المحكمة برئاسة القاضي أحمد الحسن الرحمة قرارها الذي خلص إلى إدانة “6” من المتهمين لمخالفة المادة 130 من القانون الجنائي السوداني 1991 بالاشتراك قبل أن توقع عليهم عقوبة الإعدام، وتبرئة “2” من المتهمين مع إحالة واحد “1” إلى محكمة الطفل.
التقدير أيضاً للأستاذ علي عجب المحامي الذي كفاني جهد الخوض في الكثير من التفاصيل بمساهمته الثرة بصحيفة سودانايل والتي نشرت في السابع من أغسطس 2021، حيث تناول نهج المحكمة التي حملتها حيثيات القرار وتلخصت في استنادها على ما خالف تعريف البينة قانوناً، قصور شمول التهم للأفعال وانعكاسه في قصور توجيه الجرائم ضد الإنسانية المعرفة في المادة 186 من القانون الجنائي 1991 إضافة إلى الإحالة المتأخرة لاحد المتهمين إلى إختصاص محكمة الطفل، كما دفع بإشارات أخرى في سياق التزيد اللغوي الذي حمله المحضر من الإشادة غير المبررة بقوات الدعم السريع بما قارب بين حيثيات القرار والخطب السياسية لتمارس المحكمة حرية تعبير غير آبهة بارتباط المحاكمة بوقائع ارتبطت فيها الأفعال بانتهاك لحرية التعبير.
ما أود الإشارة إليه أن القرار كشف أن إجراءات التحري والمحاكمة منذ مراحلها الأولى قد كيفتا إلى الحالة كجريمة قتل عمد بالاشتراك، دون النظر إليها في سياق مجموعة أفعال ارتبطت بانتهاك لحالة حقوق الإنسان شكّل القتل أحد أفعالها فقط لينعكس ذلك في القرار النهائي. بالبحث عن الأسباب في تقديري أن الطبيعة المرتبطة بطبيعة العديد من الجرائم / الأفعال في الفترة السياسية السابقة. وخلال الفترة الانتقالية الراهنة تواجه تعقيدات/ تحديات مرتبطة ببنية أجهزة تنفيذ القانون ويمكن تلخيصها في نطاق (الرغبة / القدرة) وهما سؤالا الكفاءة المهنية والمؤسسية؟ إمكانية الوصول للعدالة؟ يتفرع من ذلك خلال الفترة الانتقالية، فما هي محصلات المحاسبة؟ وهل تحقيق العدالة أم المحاسبة المنقوصة؟
إن العبور من هذا النفق يتطلب أن تبدأ عمليات الإصلاح القانوني بشكل مؤسسي وعاجل مع ضرروة أن تتوفر الإرادة السياسية، لكن حتى يتحقق ذلك أو للمساهمة النسبية في سبيل ذلك، لا بد من الانتباهل إلى أن هنالك تطورات عقب 2018 أفرزت تغيرات عديدة منها، التحول من تمثيل الدفاع إلى تمثيل الاتهام في الحالات المرتبطة بالانتهاكات الواسعة أو الجرائم ذات الطابع المنظم، مما يتطلب في تقديري أدوات فاعلة مثل الاستناد إلى مناهج التقاضي الاستراتيجي، دون إسهاب من متطلبات ذلك التخطيط للحالة بما يمكنها من عبور حواجز تغييب القدرة والرغبة أو الترسانات في النظام القانوني، لأنها ستقود عمليات المحاسبة “ميس”، وتحقيق العدالة وفي ذات الوقت تدفع بالإصلاح القانوني من سياق الممارسة العملية.
أخيراً: المحاكمة التي شهدتها المحكمة الخاصة بالأبيض تمثل دراسة حالة يجدر الانتباه إليها لتشابه الأفعال التي ارتبطت بسجل الانتهاكات، ولكونها كشفت وبجلاء أن أحد الحلقات المفقودة تتمثل في النظر إلى السجل بين تكييف الجرائم والانتهاكات المرتبطة بحالة حقوق الإنسان، ليكتمل عقد تحقيق العدالة بما يحقق المحاسبة وينصف الضحايا.