مناوي.. من خطاب المظلومية إلى خطاب المسؤولية
بقلم: خالد فضل
الرفيق مني أركو مناوي، نظرياً على الأقل، صاحب خبرة سابقة في شؤون الحكم، فقد سبق له تقلّد منصب كبير مساعدي الرئيس المخلوع عمر البشير، ورئيس السلطة الانتقالية لإقليم دارفور، وفق مخرجات اتفاقية أبوجا التي كان قد أبرمها مع النظام المباد في العام 2006م، تلك الاتفاقية التي قال عنها روبرت زوليك الوسيط الأمريكي فيها، إنّها لا تحتمل تغيير شولة، للدلالة على تماسكها ودقتها وشمولها. وكان زوليك يرد على منتقدي الاتفاق، ووصفه بالقاصر والجزئي، وأنه لم يحل جذور الصراع في الإقليم المضطرب. لكن السيد مناوي عاد بعد عامين من تلك المناصب والمسميات ليختصرها في عبارة مشهورة، عندما وصف موقعه في القصر بمنصب (مساعد الحلّة)؛ وهي مهمة تسند إلى مساعد سائق العربة السفرية عندما لا تكون لديه أي خبرات أو إمكانات ليساعد في قيادة العربة أو إصلاح أعطابها البسيطة، فتُترك له مهمة إعداد الطعام للسائق والمساعد الكبير والجلابي.
لعل وصف مناوي لمنصبه كان يطابق القول السوداني (ريّسو وتيّسو). ذاك كان عهد المظالم الشاملة، والاستبداد الكيزاني المقيت، وتلك عقود العهد الغيهب (الله لا عادها). الآن السودان في عهد جديد رغم ممسكات الشد إلى العهد المباد، خطاب الأمل ظل يراود الثوار والمناضلين في أحلك اللحظات، ودوننا ما قاله الأمير القامة الراحل عبد الرحمن نقد الله، وهو يواجه حكم الإعدام، وقبلاً يذكر التاريخ ثبات الشهيد عبد الخالق محجوب في وجه لوثة الهوس والانتقام، وهو يصعد إلى عليائه، عندما سأله الديكتاتور النميري: ماذا قدمت لشعبك؟ فأجاب بشجاعة (الوعي قدر استطاعتي)، وما أحوجنا لقائد يقدم الوعي لشعبه!! مثلما ظلّ الراحل الخالد د. جون قرنق يفعل.
شاهدت مؤخراً مقطعين فيديو لجزء من كلمة للقائد مناوي – إن صحت الرواية – يتحدث من موقعه كحاكم لإقليم دارفور، وعن صفته الجديدة كقائد للمنكوبين، ويطالب العالم بالقدوم لنجدة منكوبيه، كل يحمل ما يجود به، وهو يحمل قفته أو (بقجته) لتلقي بتلك الدعومات!! شعرتُ صراحة بالمرارة تطفر إلى حلقي، ما هكذا يكون الثوار والقادة الكبار؛ فكان من الأوفق في تقديري، أن يخرج مني من خطاب المظلومية والتشكي، إلى براح خطاب الأمل، والوعد بالتغيير، فقد وقف كل العالم من أدناه لأقصاه إلى جانب المظلمة التاريخية التي حاقت بأهلنا في دارفور، وتصدى نفر كبير من أبناء وبنات السودان، من الدارفوريين ومن مختلف أرجاء السودان، لصلف وبطش نظام البشير وجنجويده ومليشياته، حتى بلغت القضية منصة المحكمة الجنائية الدولية، ولم تخرج حتى الآن من أضابير الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة. لقد تشارك كثير من السودانيين من مختلف تعددياتهم في الدفاع والذود عن حقوق أهل دارفور، ومساندتهم في وجه النكبة والقتل والتطهير العرقي وجرائم الحرب والإبادات والنزوح واللجوء والاغتصاب، وبمثل ما قدمت حركات الكفاح المسلح الجهود والنضالات الباذخة. كانت جموع الثوار من الشفاتة والكنداكات في قلب الخرطوم وأزقة الأحياء يهتفون حرية سلام وعدالة وكل البلد دارفور يا العسكري ومغرور.
هؤلاء الثوار والثائرات لم تغب عن وعيهم مأساة ما فعل البشير وزمرته هناك، لذا هتفوا في ثورتهم السلمية بالسلام والعدالة، لقد تجاوزوا خطاب المظلومية إلى خطاب الأمل والوعد، وهو الأمر المطلوب من قائد ذكي مثل السيد مناوي، خلاص زمن خطب المظلوميات انتهى، الآن سينظر العالم إلى ما سيطرحه حاكم الإقليم من برامج، من خطط الإسعاف والإنعاش إلى برامج التنمية المستدامة والرفاه، وأتصور أنّه من الأفضل لكل من يود المساعدة أن يقدم آلة زراعية أو مشروعاً صناعياً أو استثماراً واقعياً أفضل من أن يرمي في بقجة السيد الحاكم بعض ما فاض عن حاجته من ساندوتشات!! إنّ أرض دارفور واسعة، مجتمعها متعدد، ثقافاتها ثرية وغنية، وإنسانها طيب وودود وعنيف وعنيد مسالم ومحارب و و إلخ، من الصفات التي يحملها كل مجتمع إنساني، إذ ليس هناك مجتمع يحمل صفة واحدة كأنه نسخ بالماكينة، ماذا سيفعل السيد الحاكم مع هذا التنوع والتعدد والاختلاف؟ كيف سيديره بحصافة وعدالة ومسؤولية؟ تلك هي الأسئلة التي تواجه الحاكم الجديد، وسينظر إليه السودانيون والعالم من خلال ما يقدمه من خلال منصبه، أما كونه زعيم المنكوبين الذين ينتظرون الغذاء والكساء والمأوى، فهذا أمر عرفه العالم من قبل وقدّم وما يزال يقدم دون أن يذكره السيد الحاكم. أمّا حديثه عن ظلم المركز، وناس الخرطوم، فهذه من الخطب التي قد تجلب التصفيق في حينها، ولكنها لا تقدّم حلاً موضوعياً وعقلانياً لمعضلة ورثتها الدولة السودانية، وهي مشكلة التهميش والسيطرة المركزية، والامتيازات التاريخية التي حظيت بها بعض المناطق نسبياً. كل هذه القضايا تمّ تناولها بكثافة، وقُدِّمَتْ فيها أطروحات وأفكار، وأُبرمت اتفاقات. الفرصة الآن أمام الرفيق مني ليثبت أنه استفاد من خبرته في الحكم، أن يصحح أخطاء تجربته السابقة، السودان الآن في مرحلة تغيير شامل وجاد، تغيير يحرسه الوعي، ولن تمر الأشياء كما كان.