الجمعة, نوفمبر 22, 2024
مقالات

كمال كيلا.. “وداعاً من فاشر السلطان”

بقلم: محمد بدوي
تزامن لقائي القصير به في العام ٢٠٠٦ في ذات يوم مغادرتة المدينة عائداً إلى الخرطوم، فجاء الأمر كترحيب متأخر ووداع برفقة السلامة، حملني على ذلك عشقٌ لفنه ودافعٌ آخر ارتبط بأحداث لم أكن من حضورها زمناً، لكن هي السير الخالدة تمشي بين الناس بهامة عالية، زيارته كانت برفقة الرئيس الجنوب إفريقي السابق ثامبو امبيكي ضمن جهود الاتحاد الافريقي لتفقد الأوضاع بعد اندلاع الصراع المسلح بدارفور، حيث أحيا حفلاً بمعسكر أبو شوك للنازحين بشمال دارفور، تلك الزيارة مضت أحداثها لتكشف وجهاً آخر لعلاقته بمدينة الفاشر، لكني لم أكن الوحيد الذي هم لوداعه بمطار الفاشر أثناء انتظاره إعلان الصعود للطائرة المتجهة إلى الخرطوم، حيث كان بصالة كبار الزوار وحوله عدد من قادة السلطة الحاكمة آنذاك في سياق برتوكولي لوداعه، ولا سيما بعد أن غادر امبيكي وتأخر هو لإحياء حفل ثاني بمباني الإذاعة بالفاشر، استاذن كيلا من مجالسه على اليمين أن يفسح المجال للزائر الثاني، والذي ما أن توهط حتى دفع أحد الحضور بسؤال مستكشفاً سر العلاقة التي دفعت ذاك الزائر ليحرص على وداعه قبل المغادرة؟
التفت الزائر نحو كيلا لتحمل لغة الجسد إحالة السؤال إلى كيلا لفك طلاسم الإجابة، التي كشفت بدايتها في 1976 حين شرف كيلا الفاشر في زيارة فنية بدعوة من المكتب التنفيذي لنادي النهضة الثقافي الاجتماعي بحي كفوت بمدينة الفاشر، أحيا خلالها حفلين بمدن الفاشر ونيالا، ثم زيارة ثانية بمشاركة من فرقة الفنانة عواطف سليمان أيضاً تلبية لدعوة من ذات نادي النهضة، أحيت فيها الفرق حفلين بكل من الفاشر والجنينة، مكن عائد الزيارتين من شراء مقر النادي الحالي بعد أن كان يشغل داراً موقتة بمنزل الراحل زين العابدين محمود المقر الحالي لمدارس زين العابدين الخاصة بالفاشر، بعد حفل مدينة الجنينة واصلت الفرق إلى مدينة انجمينا التشادية في زيارة فنية استثمرت الفرقة عائدها في شراء آلات عزف نحاسية من دولة تشاد، الزائر الآخر هو الأستاذ بدوي محمد، أو “بدوي التوم” أحد أعضاء اللجنة التنفيذية السادسة لنادي النهضة في العام ١٩٧٦، والتي جاءت الزيارات الفنية تلبية لدعواتها، حيث شغل الشفيع محمد أحمد “أزرق” رئاسة المكتب التنفيذي إلى جانب عضوية آخرين، على سبيل المثال لا الحصر محمد الحبيب علي بدوي “الحبيب”، الأخوين عبد الرحمن نصر وعمر نصر “أولاد نصر” ومحمد علي حمد النيل “حمد النيل”، والرشيد إمام علي، كما ساهم في تسهيل الاتصال والسفر مجموعة انحدرت أصولهم من حي كفوت بالفاشر من المقيمين بالخرطوم آنذاك، وهم الراحل محمد زين العابدين “حسبو”، حسين إمام علي “الكوتش”، وتاج السر محمد بدوي.
التقط بدوي قفاز الحديث مضيفاً أن كيلا هاتفه فور وصوله ليعلمه بأن رحاله حطت بالمدينة، بالإضافة إلى أجندة زيارته الفنية، اكتملت الإجابة على التساؤل في صيغة كشفت حيويتها صفحة من تاريخ فني واجتماعي ظل قيد الشفاهية، قادت في اقتدار إلى الربط بين زيارتي كيلا للفاشر (1976 – 2006) ثلاثين عاماً حقب زمنية كشفت التراجع السالب الذي دفعت إليه السلطة البلاد، فقبل ثلاثة عقود كان الفن داعماً للحراك المدني، الحفل الخيري الأول مسرحه سينما الفاشر الوطنية التي تبعد حوالي خمسة كيلومترات من معسكر أبو شوك للنازحين، في عرض حال للاستقرار الذي ساد السودان آنذاك، المدنية ورقة الحال واللطف ومآلات ما أفرزته سياسات المغول من هدر للكرامة والحق في الحياة، فكمال عثمان كيلا لم تقف حائلاً أكاديميته حيث تخرج من كلية الحقوق بجامعة الخرطوم؛ من أن يُصبح أحد الرواد السودانيين الذين احترفوا فن الجاز.
السنيين العجاف التي أدخلت السلطة السابقة البلاد فيها انعكست تراجعاً، فصمت عري المدينة النسبية التي كانت تكابد النهوض بعد أن قطع عليها العسكر الطريق مرتين عقب الاستقلال، لكن أثر سياسات الكيزان فاقت حدود تخيل الذاكرة، فتعاملوا مع الوطن وشارعه ملكية حزبية، وسارعوا إلى تموين المليشيات التي سُلحت بالبارود والسلوك القح من نسخ متعددة، لتعيد ترسيم قواعد الأخلاق ومعايير الجمال وفق انساق من صلصال الإسلام السياسي، خطواتهم التي كانت تطأ الأرض في خيلاء مزهوة بشهوة الاستخلاف والتمكين بالضرورة لم تأبه سيكولوجيتها بالرفض الضميري لفرض أنساق سلطوية على الخيارات، فمضت في غيها إلى تكوين فرق شرطية (الشرطة الشعبية) لإعادة صياغة الإنسان السوداني، فكسرت “رج” رقبة التطور المرتجى لكافة نواحي الحياة في فضاءها العام والخاص، فتراخت الأوتار حين غيبت غلظتهم حرية الكلمة واللحن.
رحل كيلا في الثاني من يناير ٢٠٢١ بالخرطوم عن عمر ناهز الـ ٧٣ عاماً، بعد أن أثرى الوجدان السوداني مغنياً بالعربية والإنجليزية، رحل وكأنه كان على موعد مع ثورة ديسمبر المجيدة، فسلامٌ عليك في الخالدين، ولمثلك تُعزف الموسيقي احتراماً وسلاماً ووداعا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *