الإعلام والعدالة الانتقالية.. نقل المجتمع من الغبن إلى إبراء الجراح
الخرطوم: أيمن سنجراب
أكدت ورشة (الإعلام وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان) وقوع انتهاكات على مجموعات سكانية بأكملها في السودان، الأمر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات أكبر من الإجراءات القضائية العادية، وذلك عن طريق (العدالة الانتقالية) لضمان الاستقرار وعدم تكرار الجرائم مرة أخرى وإعادة الثقة في مؤسسات الدولة.
وشددت مقدمة ورقة (مدخل نظري حول العدالة الانتقالية والإعلام ) لمياء الجيلي، في الورشة التي أقامها موقع (مدنية نيوز) الإلكتروني أمس الأول، بمقر منظمة (سوديا) بالخرطوم2، على أهمية فتح حوارات عبر وسائل الإعلام عن عملية العدالة الانتقالية في السودان، بمشاركة أصحاب المصلحة وفتح منابر للناجين حول شكل العدالة وجبر الضرر والتعويضات، وحذرت من أن التأخير في تحقيق العدالة يساهم في استمرار الانتهاكات.
عناصر العدالة الانتقالية
وأشارت مقدمة الورقة إلى أن تجربة العدالة الانتقالية في المغرب أنتجت حواراً وكشفت عن جرائم الاختفاء القسري بوجود سجون سرية، وأدت إلى تغيير، وأوضحت أن الهدف من العدالة الانتقالية ليس القفز على الماضي بل إبراء الجراح، وأوضحت أن من عناصر العدالة الانتقالية الإصلاح المؤسسي، المحاكمات، جبر الضرر، التعويضات، البحث عن الحقيقة وتقصي الحقائق، إقامة النصب التذكارية وإحياء الذاكرة الجماعية، وانتقدت، المصالحة التي تمت في السودان في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري بطريقة (عفى الله عما سلف).
وأبانت مقدمة الورقة أن تجربة جنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية شهدت اكتشاف انتهاكات حدث اعتراف من مرتكبيها وطلب العفو، بهدف إبراء الجراح وعدم نسيان الماضي والاعتبار من الانتهاكات وجبر الضرر والتعويض.
وقالت لمياء، إن السودان يشهد نقاشاً حول العدالة الانتقالية في الوقت الراهن، وإن هناك من يرى أن تتم من العام 1956م، وهناك من يرى أنه إذا اعتمد ذلك تجب البداية بالمعكوس أي من (مجزرة فض الاعتصام) من أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.
مخاوف ونماذج
وأمنت لمياء، على أهمية استقلالية مفوضية العدالة الانتقالية، وقطعت في الوقت ذاته بوجود مخاوف من ألا يقود القانون القادم لتحقيق العدالة الانتقالية وجبر الضرر والتعويض وغيره.
وطالبت مقدمة الورقة بعدم وجود حصانات والمصادقة على الاتفاقيات الدولية كما حدث في المغرب، والحل الدائم للصراعات بتحقيق السلام وتسهيل عملياته، وجعل الوصول للعدالة ممكناً من خلال إصلاح المؤسسات لتكون مستقلة، والمحاكمات واحترام سيادة حكم القانون الأمر الذي يشعر المواطنين بوجود جهة توفر الحماية، كما تمسكت بتسريع تحقيق العدالة الانتقالية وإجازة القانون، وحذرت من أن الصراعات الطويلة تحدث تعقيدات في الانتهاكات، ومثلت لذلك بالتحول من قضية أرض إلى اغتصاب وقتل.
وذكرت مقدمة الورقة، أن النقاش الذي شهدته جامعة الخرطوم حول العدالة الانتقالية بيّن وجود سياق مختلف من منطقة إلى أخرى وأن كل سياق يحتاج لنموذج، وأن هناك حوجة لأنظمة مختلفة وأنه لابد للقانون أن يكون مرناً.
دور الإعلام
ونبهت لمياء الجيلي، إلى أهمية دور الإعلام الذي وصفته بالكبير في تحقيق العدالة الانتقالية، عبر تحفيز النقاش والمساعدة في الوصول للحقيقة والتوثيق لها، وألا يكون مضللاً لتجنب التأثير السالب على لجان الحقيقة والمصالحة التي تعمل على معرفة السياقات التي تمت فيها الانتهاكات والأسباب الجذرية لها وما إذا كانت هناك حصانات عالية أو تمييز أياً كان نوعه.
وأكدت لمياء، أهمية جمع المعلومات في كشف الانتهاكات، وأن ينظر للإعلام كشريك وليس خصماً، ونقل القطيعة مع الماضي واعترافات الجناة عبر وسائل الإعلام، واعتبرت أن الأثر يكون ناقصاً حال عدم نشر الاعترافات.
تحديات
وتطرقت لمياء إلى التحديات العامة التي تنطبق على جميع أنظمة العدالة الجنائية مثل: (بطء الإجراءات، التكاليف الباهظة، نقص الشهود المتاحين والأدلة، صعوبة إثبات الدعوى دون قدر معقول من الشك، الاهتمام غير الكافي بحاجيات الضحايا “قلة مواساة الضحايا والإمكانيات الضعيفة في التعويض والحد الأدنى من المشاركة”، الافتقار إلى أوجه حماية ضحايا العنف الجنسي من تخويف قاعة المحاكمة والتحرش).
لجان الحقيقة والمطلوبات
وأوضحت لمياء، أن المتوقع من لجان الحقيقة معرفة الحقيقة وحجم وطبيعة الانتهاكات والضحايا المتأثرين بالحرب (تأثر مباشر أو غير مباشر)، ومعرفة ما إذا كانت الانتهاكات ممنهجة والوصول للمعلومات لمحاسبة مرتكبي الجرائم وكشف شكل التعويضات المطلوبة من الضحايا، والدعوة إلى المصالحة والتسامح على الصعيد الفردي والوطني، وأن
تعمل كحصن ضد وقائع النعرات الوطنية أو الرجعية لأحداث الماضي، في وقت طرحت المدرِّبة صفية الصديق، ضرورة مشاركة قادة المجتمعات المحلية في لجان الحقيقة.
وأوضحت صفية الصديق، أن مشروع العدالة الانتقالية يخرج المجتمع من الغبن إلى الحالة الطبيعية عبر آليات يشارك فيها المجتمع، وأشارت إلى أن نازحين في معسكرات بدارفور طرحوا بنوداً لتحقيق العدالة الانتقالية منها تسليم جميع المطلوبين في القضايا للمحكمة الجنائية الدولية، وطرد المستوطنين الجدد من الأراضي، والإنصاف في الخدمة المدنية بتمييز إيجابي لأبناء النازحين والمشاركة في الحكومة وفقاً للمقدرات، والتعويضات الفردية والجماعية.
تحذير ومطالبة
وبينما حذرت صفية، من تكوين مفوضية العدالة الانتقالية بمحاصصة سياسية الأمر الذي يدخل أشخاصاً كانوا جزءاً من الانتهاكات في عضويتها، شددت لمياء الجيلي على توسيع المشاركة في إعداد قانون العدالة الانتقالية ووجود المجتمع المدني في ذلك، وإجازة قانون متوافق عليه والتعجيل بذلك، بالإضافة توفر الإرادة السياسية لتحقيق العدالة الانتقالية.
إجماع
وشدد المشاركون في الورشة على أهمية مشاركة المجتمع وخاصة المتضررين والمتضررات من الانتهاكات في النقاش حول العدالة الانتقالية وتوسعته، وعدم إصدار القانون من (الغرف المغلقة)، وضرورة بث الوعي بأن العدالة الانتقالية لا تعني الإفلات من العقاب، إضافة لأهمية النظر للعدالة الانتقالية من الجانب الحقوقي بحفظ حقوق الناجين والناجيات والسماح للمتهمين بالمحاكمات العادلة وعدم التشفي، والربط بين العدالة الاجتماعية والعدالة الانتقالية.
كما أشار المشاركون إلى إتاحة تجربة جنوب إفريقيا حق العفو، بجانب إمكانية اللجوء للمحاكم لمن لا يريد العفو، ولفتوا في الوقت ذاته إلى تجنب تأخير إصدار قرارات عبر المحاكم، وأكدوا ضرورة معرفة السياق والإرث الثقافي للمجتمعات التي شهدت انتهاكات.
التوثيق وجمع المعلومات
وفي السياق أكدت صفية الصديق أهمية التوثيق وجمع المعلومات في الوصول للعدالة، وعرّفت التوثيق بأنه جمع أدلة وبراهين ومعلومات لتغيير وضع قائم إما بالتوثيق لتجارب ناجحة أو لانتهاكات حدثت، وقالت: (كل ذلك مبني على المعلومات الصحيحة لتحقيق العدالة)، ونوهت إلى ضرورة أن يكون الموثِّق مستقلاً وأن يسمع بتجرد وأن يكون منفصلاً عن أية مؤثرات أو خلفيات أو أحكام مسبقة.
وذكرت صفية، أن وسائل الإعلام تعتبر مصدراً أساسياً لكثير من المعلومات، بجانب المصدر الأساسي (الناجون) الذين يجب التعرف على شخصياتهم لتقييم المعلومات، أضافة للمجتمع الذي حدثت فيه الانتهاكات، ودعت لضرورة دراسة مجتمع المعلومات ووضعه السياسي والاقتصادي وعاداته وتقاليده ولغته من أجل الحصول على المعلومات، بالإضافة إلى تحديد المدخل الجيد باعتبار أن المجتعات منتهَكة الحقوق يكون لديها عدم ثقة، كما دعت لتجنب عدم التوثيق في ذات المكان الذي حدث فيه الانتهاك، واحترام ثقافات المجتمعات وعدم استفزازها بلغة متعالية أو لبس فخم مثلاً لأن ذلك يخلق حاجزاً بينها والموثِّق.
وفي وقت طالبت لمياء الجيلي، الموثِّقين بوضع خطة مبنية على معرفة السياق الخاص بالمجتمع الذي شهد انتهاكات وبناء مصادر داخل ذلك المجتمع، واختيار التوقيت المناسب للتوثيق مع الناجين أو الناجيات، أشارت صفية، إلى أهمية حفظ المعلومات وسريتها لحماية الناجين أو الناجيات، وتحقيق مصلحة من تم التوثيق معهم أو معهن مثل حجب الأسماء في حالة النشر.
ولفتت صفية، إلى ما وصفته بالتدمير الممنهج لوثائق كانت ستؤسس لمحاكمات عادلة، حيث كانت توجد برامج في الإذاعة والتلفزيون تؤسس لانتهاكات، وتمسكت بضرورة الوضع في الاعتبار أن الحرب في السودان بها فاعلون كثر.
النوع الاجتماعي والعدالة الانتقالية
وقالت لمياء الجيلي، عند حديثها عن (النوع الاجتماعي والعدالة الانتقالية) إن الاغتصاب يستخدم كسلاح لكسر الرجال، وشددت على أن تنظر العدالة الانتقالية للنوع الاجتماعي وكيفية التعامل مع الانتهاكات في العنف ضد النوع، وإشراك النساء في كل المراحل والسياسات المتعلقة بالعدالة الانتقالية.
وأضافت أنه لابد من تعزيز الوصول للعدالة وإزاحة العقبات التي تعترض طريقها، وتحقيق الإصلاح المؤسسي الذي يتضمن تدريب منسوبي الشرطة على سبيل المثال، ورأت أن غياب المساءلة والحصانات من الإشكالات التي تعترض تحقيق العدالة في العنف الجنسي.
ومن ناحيتها نبهت صفية الصديق، إلى التعامل مع الانتهاكات التي تطال النساء بحساسية ووضع تدابير وآليات مختلفة وتحديد من هو الأفضل (ذكر، أنثى) لإجراء المقابلة مع من أُنتُهِك حقها، وأبانت أن من آليات لجان الحقيقة عقد حلقات سماع لمجموعات مختلفة للتوثيق لحديث الناجين أو الناجيات عن الانتهاكات لما لذلك من دور في التعافي.
وتناولت صفية، عدداً من أنواع الانتهاكات التي طالت النساء منها (استخدام النساء كخادمات للجنود أو للمتعة الجنسية، قتل أشخاص أمام النساء، ضرب الحوامل بالرصاص، على بطونهن)، كما عدّدت أنواعاً من الانتهاكات التي تطال الرجال بهدف كسرهم وإذلالهم مثل قتل أطفال ونساء أمامهم، ونبهت إلى الحساسية في تناول الانتهاكات وعدم ارتكاب انتهاكات عند الكتابة بنشر توثيق فيه تمييز ضد شخص أو أشخاص أو مجموعات.
وشهدت الورشة نقاشاً حول ضرورة عدم تدخل الصحفيات والصحفيين والإعلاميين كافة لصالح مجتمعاتهم عند حدوث صراع، وتوثيق الانتهاكات بتجرد، والكتابة بحساسية في حالات النزاع القبلي لتجنب تصعيد الصراع، والتحقق من الصور المنشورة في حالات النزاعات، وعدم اعتماد كل ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي باعتباره حقيقة والرجوع لمصادر موثوقة بغرض التحقق، وتجنب نشر الصور التي تتضمن انتهاكات.