التعثر الديمقراطي في السودان.. كتاب جديد للبروفيسور عطا البطحاني (3)
الخرطوم: حسين سعد
نواصل في الحلقة الثالثة من كتاب د. عطا البطحاني، استعراض عناصر المتغيرات التوسطية بين المجتمع ومؤسساته – النظام الحزبي في (1) التشظي أو التشرذم في النظام الحزبي، (2) الاستقطاب الحزبي، و(3) الاستقرار الحكومي.
وتذهب الأدبيات حسب البطحاني، إلى أن المجتمعات التي يسود فيها التباين بدرجة أدنى من التشظي أو التشرذم (الولايات المتحدة) أكثر ميلاً لاستقرار النظام الديمقراطي من تلك التي ترتفع فيها درجة وحِدّة التشرذم (ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لبنان، معظم الدول الأفريقية، اإثيوبيا). أتصل النقاش بعدد الأحزاب الملائم للنظام الديمقراطي، وذهبت بعض التيارات إلى أن نظام الحزبين الأكثر ملاءمة للديمقراطية، في حين يرى البعض الآخر أن التعددية الحزبية المعتدلة (أكثر من حزبين- أي درجة معتدلة من التشظي) لا تضير النظام الديمقراطي.
وجاء في الكتاب: يبدو أن الأستقطاب هو الأكثر تاثيراً على مدى استدامة النظام الديمقراطي، إذ يتغذى الاستقطاب السياسي من مورد التشظي بين الأحزاب، وقصر قامة قادتها ويفتح الباب لبلورة تيارات وظهور أحزاب معادية للنظام الديمقراطي الذي تعمل في داخله وضده في ذات الوقت. وأفاد البطحاني أن العنصر الثالث للمتغيرات التوسطية يرتبط بالاستقرار الحكومي ومستوى الأداء الوظيفي لأجهزة الحكم، ويقاس بمدى استدامة وجود التحالف الحزبي الحاكم أو التشكيلة الوزارية في رأس الحكم. وتفترض الأدبيات أن التحالفات الحزبية المستقرة (ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية) أكثر ميلاً لدعم واستدامة الديمقراطية، من تلك التي تتسم بالتحالفات الحزبية غير المستقرة (تركيا بين 1960 – 1999، لبنان، معظم دول العالم النامي). ومن جهة أخرى، نجد أن العلاقة بين التحالفات الحزبية والنظام الديمقراطي معقدة بعض الشيء. إذ يمكننا أن ننظر أيضاً إلى أثر خصائص النظام السياسي الديموقراطي على التحالفات الحزبية، فلربما تكون هناك سمة ما لها صلة بأداء التحالفات الحزبية. وقد يرجع ضعف أداء النظام الديمقراطي وعدم استقراره لعامل آخر غير التحالفات الحزبية.
المتغيرات الخارجية
ووفقاً للبطحاني فتتمثل هذه المتغيرات فى التدخلات الخارجية في التوجيه المباشر للنظام السياسي للدولة. وتتفق الأدبيات على أن الدول التي تتعرض لمثل هذه التدخلات من قوى خارجية يتعرض نظامها الديموقراطى لعدم الاستقرار، بل التهديد بزواله. ومع ذلك نلاحظ أن هذا المتغير قد أغفلته الدراسات سواء مجال الدراسات المقارنة، أو دراسة المناطق وهناك أمثلة عديدة مصدق في إيران في أوائل الخمسينيات وتشيلي في عام 1973، وفي ختام دارسة المتغيرات، يصل ابراهام ديسكن وآخرين إلى خلاصة مفادها عدم التعويل على متغير واحد، الأسلم إذن، القول إن مجموعة متغيرات وليس متغيراً واحداً هو ما يفسر استقرار أو انهيار نظام الحكم الديموقراطي. ومع إقرارهم بذلك، إِلا أنهم أشاروا إلى أن بعض المتغيرات لها أهمية أكبر من الأخرى، مثل الاقتصاد، التاريخ الاجتماعي، الأداء الوظيفي للجهاز الحكومي والتدخل الخارجي، وسوف نشير إلى التداخل بين هذه المتغيرات وبين النظريات المفسرة.
إنهيار واستقرار الحكم الديمقراطي
وذكر البطحاني: اتخذت دراسة أبراهام ديسكن وآخرين مع دراسات عديدة، منهجية القياسات الكمية وأعتقد من الأفضل الإشارة باختصار إلى الدراسات التي اعتمدت منهجية الدراسات الكيفية، وهناك أيضاً دراسات مازجت بين المنهجيتين بدرجات متفاوتة لا يتسع المجال للتفصيل فيها، ومن بين النظريات الكلاسيكية ما جاء به بارينغتون مور عن التحولات التاريخية – الاجتماعية الكبرى التي تنقل المجتمع من مرحلة الإقطاع إلى المرحلة الرأسمالية، وما تحدثه من تغيير في مواقع طبقات المزارعين والصناعيين والعمال وتهيء الفضاء العام لتوازن قوى مجتمعي يسمح بالمنافسة دون إخلال بالتوازن العام. وهناك الكتابات التي تعلي من شأن العوامل الثقافية، كما عند صمويل هنتغتون، ولوسيان باي، وغيرهم.
ومن الدراسات التي تركز على عوامل البنيوية والاقتصاد السياسي ديفيد هلد 1985 وتضم فصول لكل من غوران ثيربورن، بوب جيسوب. ومن الدراسات المعاصرة نذكر اسيموقلو وروبنسون – لماذا تفشل الأمم والممر الضيق ودراسة البدوي ومقدسي التي تمت الإشارة إليها أعلاه.
وأشار عطا البطحاني، إلى أن المجتمعات الغربية تمكنت من المواءمة بين الرأسمالية كنظام اقتصادي والديمقراطية كنظام سياسي، من خلال نمو قوى الانتاج وزيادة الانتاجية القائمة على خاصية تبدو متناقضة ومزدوجة والمتمثلة فى درجة استغلال رأس المال للعمل، وفي ذات الوقت زيادة أجور العمال وتحسين مستوى الحياة. يأخذ رأس المال الانتاجي دورته الاقتصادية كاملة (اِنتاج، تداول، استهلال، إعادة إنتاج) وذلك عبر ما يمكن تسميته ديناميكية وقدرة النظام الاقتصادي الرأسمالي على التجديد المتسع الشيء الذي يضع أسساً “لتسوية تاريخية” بين رأس المال والعمل، والأهم وجود أحزاب سياسية ومجتمع مدني وتنظيمات نقابية تدير التسوية. وهذا يوفر هامشاً كبيراً لاستقلالية الدولة وأيضاً يوفر لرأس المال والجماعات العمالية والمهنية مجالاً للمناورة وتكييف ميزان القوة الطبقي لصالحها حسب تبدل موازين القوة. هذه الخاصية المميزة للمجتمعات الغربية الديمقراطية لا تتوفر للمجتمعات الأفريقية والعربية ذات الاقتصاديات التي يغلب عليها الطابع غير الانتاجي والريعي والتابعة للرأسمالية العالمية، مع تمسك الطبقات الحاكمة بسلطة الدولة.
إطار تحليلى للدول الأفريقية والعربية
ويمضي البطحاني لتوضيح أن الأدبيات تتباين في تحديد العوامل المؤثرة فى إنجاح النظم الديمقراطية. فهناك من يعلي شأن العوامل الثقافية[1] ومنهم من يؤكد على دور العوامل التاريخية والاجتماعية بالتركيز على دور الطبقة الوسطى وبالطبع هناك التيارات التي تعطي الدور الرئيسي للعوامل الاقتصادية – السياسية. ورأينا أعلاه أبراهام ديسكن وآخرين يميلون للأخذ بمجموعة الفرضيات كإطار للتحليل. ومع الإقرار بأهمية العوامل التاريخية، الاجتماعية، والثقافية، اِلا أننا نميل لإعطاء أهمية نسبية أكبر للعوامل الاقتصادية – السياسية. وقال: تجدني أكثر ميلاً للرأي الذي يرجع طبيعة العملية السياسية، خاصة تلك المتحورة حول السيطرة على الدولة، إلى توازن القوة في المجتمع، أو ما يمكن قوله (التوازن المتجذر في بنية المجتمع)، ونقصد هنا البنية التحتية لنمط الاِنتاج. وفي عالم الرأسمالية اليوم، يتحدد أطراف التوازن المتجذر في بنية المجتمع ببنية الانتاج الاقتصادي وعلاقة رأس المال والعمل، والتداخل والتقاطع مع الطبقات والشرائح الطبقية فى صراعها على سلطة الدولة، علماً بأن ديناميكية الصراع لا تستنفدها المصالح الاقتصادية – الطبقية لوحدها.
شرائح متعددة
ويتابع البطحاني: يخلق العامل الاقتصادي من خلال تطور القوى والطاقات الانتاجية البيئة التي تتسع لوجود أكثر من قوى فاعلة تتنافس من أجل مصالحها، أبرز هذه القوى رأس المال والعمل. والوسيلة لتطور القوى والطاقات الانتاجية تتمثل في استكمال رأس المال الإنتاجي دورته الاقتصادية عبر توظيف عوامل الإنتاج، وأهماها العامل البشري، بهدف اِنتاج وتراكم القيمة المضافة، وفائض القيمة. استكمال هذه الدورة الانتاجية سيؤدي إلى نمو الطبقة الرأسمالية (شرائح متعددة)، وفي ذات الوقت نمو الطبقة العمالية والمهنية. هاتان الطبقتان تمثلان الأساس المادي – الاجتماعي لتوازن القوة المجتمعي، التوازن الراكز في بنية المجتمع والموفر للشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للديمقراطية.
ويضيف: لأن هذا التوازن يبقى جهاز مستقل نسبياُ عن القوى الرئيسية؛ لتتنافس دورياَ لإدارته عبر انتخابات حرة ونزيهة. بدون وجود مساحة للاستقلال النسبي لجهاز الدولة، يصبح لا معنى للحكم الديمقراطي القائم على التفويض الشعبي لمن يحكم. ووجود وانعدام هذه المساحة يرتبط بنمط التحول للرأسمالية الذي تمر به المجتمعات. وبحسب تشكيل بنية وهيكل المجتمع تأخذ العوامل غير الاقتصادية من سياسية واجتماعية وثقافية وأيدولوجية (أهميتها النسبية) في ديمقراطية النظام السياسي.(يتبع)