حرائر دارفور.. نساء في دور (الإيواء) يواجهن أهوال الحرب
غرب دارفور: هانم آدم
فرّت مريم إسماعيل، من قريتها (هبيلا كناري) قبل سنوات عديدة عقب اندلاع الحرب في دارفور، وظلت تبحث عن الأمان ليستقر بها مطاف رحلتها تلك بمعسكر (كريندق ون) بعد الأحداث التي شهدتها المنطقة في (2019) ولكنها لم تسلم هنا أيضاً من الاعتداءات وعدم وجود الأمن، وقالت: في أحداث (كريندق) تمت مهاجمتنا من قبل أناس يرتدون زي الدعم السريع وتكرر هذا الهجوم مرة أخرى قبل عامين (2020م) حيث تم قتل ابن أختي فحملنا جثته ومعي بعض النسوة إلى داخل المدينة حيث تم ستره.
ومع قدوم يوم (8) مارس باعتباره اليوم العالمي للمرأة يتصاعد الاهتمام بتسليط المزيد من الأضواء على أوضاع النساء في مناطق النزاع والانتهاكات التي تطالهن، (مدنية نيوز) أعدت هذا التقرير حول المصاعب التي تواجهها النساء في دارفور داخل دور الإيواء، وهو مجتزأ من تقرير يعكس معاناة النازحين عموماً سيتم نشره لاحقاً بصورة أوسع.
استمرار الحزن
رجعت مريم إسماعيل بذاكرتها لتلك الأيام التي وصفتها بالحزينة وذكرت: بعد مرور (3) أيام من تلك الحادثة – مقتل ابن أختها- عدنا مرة أخرى من أجل ممتلكاته حيث كان يعمل تاجراً ولديه (دكان)، وبالفعل تحصلنا على ماله الذي وضعه في (علبة) ولكن أخذه منا بعض المتواجدين هناك وقالوا لنا إن الحكومة أتت بهم للحراسة، وبعد نقاش طويل مع قائدهم أعادوا لنا القليل من تلك النقود.
وأضافت: حالياً وبعد كل ما رأيناه من معاناة كيف لنا أن نرجع في ظل عدم توفر الأمن؟، ومضت للقول إن الذين يدعون أنهم عادوا للمنطقة هم في الأساس من سكان المدينة واستنكرت حالة الفرح و(الزغاريد) بالعودة، وتساءلت: (كيف لشخص أن يزغرد وقد فقد إما اخوه أو أمه في الأحداث؟، وإذا توفر لنا الأمن فما الذي يجبرنا أن نعيش هذه العيشة؟)، ورددت (مافي حل غصوبية بس).
وأشارت عائشة إسماعيل لانعدام الغذاء والدواء أو المشمعات من أجل تشييد المساكن، وقالت إن الأطفال يعانون من الكحة ومرض الدفتريا.
مصاعب ومجهودات ذاتية
أما ثريا عثمان، التي بدأت دراستها الجامعية غير أن الظروف أجبرتها على تجميد العام الدراسي، فتقول إنهم في كثير من الأحيان يضطرون لجمع مبالغ قليلة من النازحين أنفسهم لحفر مراحيض لقضاء حاجتهم نسبة لعدم كفايتها، أما الاستحمام فتضطر النساء للاستحمام داخل المكان الذي يعشن فيه وتمارس فيه كل تفاصيل الحياة من أكل وشرب ونوم، ومن ثم حمل المياه بـ (الجرادل) لخارج مركز الإيواء للتخلص منها.
ولفتت ثريا، إلى وجود عدد من المنظمات التي عملت من قبل في جانب الصحة بمركز الإيواء، وتمنت توفر الأمن حتى يستطعن العودة لمناطقهن ومواصلة تعليمهن.
مواجهة الصعاب
ومن جانبها أوضحت فاطمة عبد الله، في إفادة لـ (مدنية نيوز) أمس الأول، أنها نزحت (3) مرات منذ اندلاع الحرب في العام ٢٠٠٣م التي تعرضت فيها للإصابة بطلق ناري، ونوهت إلى ما واجهته مع غيرها من السكان منذ ذلك العام من انتهاكات شملت القتل والإهانة، وكشفت أن لديها طفلين تمت إعاقتهما بطلق ناري أحدهما ما يزال يتلقى العلاج في الخرطوم جراء إصابته في أحداث (كريندق الثانية).
وأبانت فاطمة، أنه ما لم يتوفر الأمن فلا يمكنهن العودة، و(لو مكثنا هكذا لعشر سنوات أخرى)، ونبهت إلى أن هناك من يعودوا إلى مناطقهم بغرض استلام المواد الغذائية بكمية أكبر والمشمعات ومن ثم يرجعوا مرة أخرى لمراكز الإيواء لانعدام الأمن في مناطقهم الأصلية.
أوضاع خاصة
وأثناء حديث فاطمة قاطعتها نازحة أخرى وهي تشير لمعاناة النساء بمراكز الإيواء خاصة وأنهن يمررن بظروف وأوضاع خاصة في فترات الولادة، ونتيجة لتلك الأوضاع الصعبة فقد لا تستطيع المرأة أن توفر أبسط احتياجاتها من صابون واحتياجات المولود نفسه، وقالت إنهن نتيجة لعدم توفر الغذاء يلجأن في كثير من الأحيان لصنع غذاء من الماء و(الويكة) فقط، وهذا الغذاء غير المكتمل للنساء جعل الكثيرات منهن تعانين من الضعف والصداع وعدم انتظام (الدورة الشهرية)، وطالبت بضرورة توفير أعمال يدوية حتى تستطيع النساء أن يدعمن أنفسهن، وأن يوفر لهن التعليم.
عاملات يومية
ومن جهتها أشارت نازحة أخرى إلى أنهن يعتمدن على العمل اليومي (عمال يومية) في تسيير حياتهن لأن ما يقدم لهن من دعم شهري في جانب الغذاء لا يكفي. وذكرت: لا نستطيع أن نترك الفتيات يعملن حتى لا يتعرضن للمضايقة والتحرش والاعتداء الجنسي، لذلك نعمل نحن في البناء أو جمع الحطب، وفي السنين الماضية زرعنا ولكن تم حرق زراعتنا لذلك لم نستطع أن نزرع هذا العام، وعندما اندلعت الأحداث الثانية حرق منزلنا بعد أن طلب منا مغادرته، وتم قتل الرجال وتركت جثثهم لتحملها النساء الناجيات من الهجوم إلى المدينة لدفنها.
تشابه الحال
مركز الإيواء بمدرسة الزهراء ليس بأفضل حال من سابقه فالنزوح مشترك والتكدس السكاني مشترك والمعاناة واحدة. وأول ما يلفت انتباهك وأنت تدلف لداخل المركز هو ذلك السوق الصغير الذي اتخذه النازحون لعرض بضاعتهم من خضروات وبعض الأدوات البسيطة من أجل مساعدة أنفسهم لتوفير لقمة العيش. أما داخل المدرسة فقد تحولت الفصول إلى مساكن للأسر، ولم تكف تلك الفصول فبنيت (رواكيب) في مساحات صغيرة ومتلاصقة لتستوعب كل النازحين.
تومة أبوبكر، التي اتخذت مدرسة الزهراء مقراً لإيوائها هي وأطفالها التسعة بعد فرارهم من معسكر (كريندق) بعد أندلاع الحرب ما تزال تعاني جروحاً لم يستطع الزمن أن يمحوها من ذاكرتها، وقالت: حملنا جثثاً على أكتافنا مع أعمامي ودخلنا المدينة حيث قتل (3) من أبناء عمومتي بجانب شقيقي وقد سبقه شقيقي الأصغر في أحداث (كريندق) الأولى.
مشقة الحياة
النساء والأطفال من أكثر المتضررين من الحرب، وكشفت ممثلة المرأة بمركز إيواء محلية الجنينة فاطمة حسن عبد الله، عن معاناتهن والأطفال داخل مركز الإيواء، حيث يواجه كثير من المتواجدين بالمركز الإصابة بالحميات ونقص الأدوية، وانعدام التعليم نتيجة عدم قبول أطفال النازحين في مدارس المدينة، ومطالبتهم بمواصلة تعليمهم بمدارسهم، وأردفت: لدينا أطفال صغار لا يمكن أن نتركهم يعودوا لمدارسهم في المنطقة التي نزحنا منها لانعدام الأمن في الشارع، وتساءلت: كيف لطفلة أو طفل لم يتجاوز عمره (7) سنوات أن يقطع كل هذه المسافة حتى يصل لكريندق؟، وزادت: ليس لدينا أطفال يدرسون بمراكز الإيواء.
وطالبت ممثلة المرأة بمركز إيواء محلية الجنينة، بتوفير الأمن وبقية المطلوبات حتى يتمكن النازحون من العودة الطوعية.
مآسي الحرب
فطومة عثمان التي فقدت زوجها في أحداث (كريندق الثانية) لتصبح مسؤولة عن تربية (7) أطفال، نظرت إلينا بكل ريبة وشك وسألت نازحة أخرى بلهجة محلية لم نفهمها لتوجه لنا الأخرى السؤال قائلة إنها تستفسر هل أتينا من أجل إرجاعهم فأوضحنا لها أننا نريد عكس الأوضاع التي يعشنها. عند هذه النقطة تحديداً تسرد لنا قائلة إنه في أحداث (كريندق) تم تجميعهن كنساء في مكان واحد وأحضر المهاجمون الجثث ثم طلب منهن النظر في أعين تلك الجثث. وأضافت: عقب ذلك طلب منا أن نحمل احتياجاتنا في عربات (الكارو) حتى نخرج للمدينة، وعندما فعلنا ذلك تم قتل الحمار، وطلب منا أن نرفع (الكارو)، أما بقية الجثث المتواجدة داخل المنازل فطالبونا بإخراجها ومن ثم أحرقوا المنازل وكانوا يرددون أن ( هذه بلدنا اذهبوا وابحثوا لكم عن بلد آخر).
وأوضحت أن جثث القتلى في تلك الأحداث بقيت (3) أو (4) أيام في العراء.
أما مقبولة إبراهيم التي أفادت بأنها توقفت عن الدراسة وهي على أعتاب دخول الجامعة تشير إلى أنها توقفت عن التعليم مجبرة بعد أن نزحت إلى داخل المدينة واستقرت بمركز الإيواء حيث لا إمكانية لمواصلة تعليمها نظراً لبعد المسافة بين مدرستها في (كريندق) وداخل المدينة وليس لديها المبلغ الكافي لكي تلتحق بمدرسة خاصة، وتعتمد هي وأسرتها على رزق اليوم، وهي لا تستبعد في الوقت ذاته حدوث بعض التهديدات للفتيات.
ذكريات أليمة
وبدورها تسترجع عائشة أرباب، ذكريات اندلاع أحداث (كريندق الثانية) وتقول وقتها طلب منا أن نغادر منازلنا سريعاً وترك كل ما لدينا خلفنا حفاظاً على أرواحنا، وعندما وصلنا الكبري في طريقنا للمدينة تم قتل الرجال أمام أعيننا، أما النساء فتم تفتيشهن بحثاً عن موبايلات أو نقود ومن ثم ضربهن بـ (العكاكيز) وبعد كل هذا كانوا يطالبون بالرجوع لحمل الجثث.
وتابعت عائشة: بعد أن وصلنا واحتمينا بمراكز الإيواء واجهنا عدة مشاكل فالأطفال يريدون أن ياكلوا ولا يعرفون من أين يمكن أن يؤتى بالطعام، ورغم أن المنظمات مدتنا بالغذاء لكن ما زالت هناك حوجة، فنضطر للخروج للعمل وأحياناً نجد فرصاً للعمل وفي بعض الأحيان لا نجد، وتساءلت: (ماذا نفعل؟)، وقالت: (نحن لا نريد البقاء هنا، وإذا وفروا لنا الأمن سنرجع ونأخذ معنا أطفالنا)، وبعد ذلك دخلت في نوبة بكاء شديدة وهي تقول (الأطفال أصبحوا يتامى فماذا نفعل وأين نذهب؟).
حاولنا تهدئتها من أجل التوقف عن البكاء، ولكن يبدو أن آلام الفاجعة داخلها كانت أكبر من أية محاولات، وخيّم الحزن على المكان، لتبقى أولئك النسوة في انتظار الإنصاف وتحسين الحال ليعاودن الحياة كما يجب أن تعاش.