الموت من أجل الحياة حياة
بقلم: لمياء الجيلي
الرحمة والمغفرة لشهداء الثورة السودانية وشهداء الظلم والفساد، منذ تولي الحقبة الظالمة أمر الوطن في الثﻻثين من يونيو 1989 في كل بقاع الوطن، مدنه وقراه وأريافه. والرحمة والمغفرة لشهداء مواكب الثلاثين من يونيو 2022، وعاجل الشفاء للجرحى..
هذا الجرح الغائر من حزن وغبن وظلم تراكم ويتراكم كل يوم، ما دام السفاحون يمارسون هواياتهم في اصطياد فلذات أكبادنا وشباب وشابات بﻻدنا، الذين قدموا وﻻ زالوا يقدمون أرواحهم ودماءهم الزكية فداءً للوطن ومهراً للحرية واﻻنعتاق من سيطرة عصابات فاسدة، وعقول ظالمة مظلمة، ارتهنت الوطن كله من أجل أن تفلت من العقاب، وأﻻ تنال جزاء ما اقترفته يداها لعقود من جرم وانتهاكات وفساد وإفساد، يظنون أن القمع والقتل والسحل واﻻعتقال والاغتصاب والتعذيب ينجيهم من عذاب يهابونه ويرتجفون من ذكره.. ويدفعون الغالي والنفيس ليتحصنوا به، ولن يجدي ذلك شيئاً، فالسقوط قاب قوسين أو أدنى، والعدالة ستطالهم ولن يفلتوا هذه المرة من جرمهم، ولن يطول ليل الظلم، وعما قريب ستشرق شمس الحرية، ويسطر التاريخ للشعب السوداني نضاله السلمي، وبسالاته دروساً عظيمة تتدارسها اﻷجيال.
هاهم الثوار يثبتون كل يوم أن روح الثورة لن تموت وستظل حية تزداد كل يوم لهيباً واشتعاﻻً، وأن دماء الشهداء دين في الرقاب ﻻ بد من سداده إن طال الزمن أو قصر. مصادرة الحق في الحياة، وحق التجمع السلمى وحق التعبير، وحصاره بقطع اﻻنترنت واﻻتصاﻻت، ومواصلة القمع واﻻنتهاكات واﻻستخدام المفرط للقوة المفرطة تجاه الثوار السلميين؛ يقفل الباب تماماً ﻷي حوار أو تسوية مع اﻹنقلابيين، وأن من يمد يده للقتلة يخون دماء الشهداء، ويبيع حزن اﻷمهات والآباء والزوجات واﻷبناء بثمن بخس، ويزيد من جرحهم، ويعمق من آﻻمهم وحسرتهم على فقدان فلذات أكبادهم.. بل ﻻ يحترم حزنهم وﻻ يعير باﻻً لمشاعرهم وآﻻمهم، من يمد يده للانقلابيين وحاشيتهم سيكون الخاسر اﻷكبر.. وسيذهب الى مذبلة التاريخ مع زوال هذا اﻹنقلاب أجلاً أم عاجلاً.
القراءة السليمة للسياق السياسي والنضالي والثقافي، والوجدان للشعب السوداني مطلوبة في هذه المرحلة الهامة والحساسة في تاريخ البﻻد، حتى ﻻ نكرر أخطاء الماضي، وأن نستفيد من تجاربنا وأخطاءنا، وأن نعي تماماً أن جيل ثورة ديسمبر المجيدة يختلف تماماً عما سواه من أجيال، وأن أحلامه وتطلعاته تختلف، وتحتلف معها آليات النضال وطرقه، وقدرته على الصمود والصبر على النضال.. ومن حق الأجيال الشابة أن تخطط لمستقبل البﻻد ومستقبلها فيه، باعتبار أن السودان دولة شباب والشباب يمثلون نسبة عالية من عدد السكان، فمن حقهم أن يفسح لهم المجال مع اﻵخرين لتحديد مستقبل ومصير البلاد..
في الثلاثين من يونيو 2019 شهدنا مواكب هادرة، وجموع غاضبة فاضت بها شوارع البلاد، وطغى صوت الهتاف على كل صوت مطالباً بالقصاص لشهداء مجزرة القيادة، وبالحرية واﻻنعتاق للوطن. كان ذلك استفتاءً شعبياً كاف لتسلم السلطة من المجلس العسكري اﻻنتقالي، آنذاك، كاملة غير منقوصة، الى قوى الثورة ممثلة آنذلك في (قوى الحرية والتغيير) ولم تكن هناك حاجة لتسوية ﻻ تعبر عن تطلعات الشارع، وﻻ تحقق الوصول الى مدنية الدولة والحرية والسلام والعدالة، وﻻ حاجة للجلوس مع (اللجنة اﻷمنية لنظام البشير البائد). فمجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش ومواكب 30 يونيو 2019 كانتا كافيتان لانهاء أي وجود للجيش في السلطة، مهما كانت الذرائع، بل كانت سانحة ﻻجبارهم على العودة للثكنات، ولإدماج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، وتشكيل جيش قومي موحد، يحمي حدود البﻻد من أي عدو خارجي.
وها هي قوى الثورة تؤكد بخروجها الكبير في الثﻻثين من يونيو 2022 وتعيدنا الى الطريق الصحيح ﻻنتشال الوطن من قبضة العسكر. واتمنى اﻻ نعود الى نفس الدائرة الخبيثة، والرضوخ الى ضغوط دولية أو إقليمية بعيدة عن تطلعات الشارع السوداني، وبعيدة تماماً عن مصلحة الوطن.. وها هي اﻷنباء والتصريحات الخجولة من بعض القوى السياسية والمدنية التي بعدت عن الشارع وتطلعاته تتحدث عن تسوية سياسية، وإنهاء اﻹنقلاب (وليس إسقاطه)، متجاوزة قوى الثورة ومطالبها وﻻءاتها الثﻻثة التي رفعتها في وجه إنقلاب 25 أكتوبر 2021، والدماء التي سالت وﻻ زالت تسيل، تحمل ﻻءاتها حلما وطريقاً لن تتراجع عنه ولن تحيد. وهو شعار ليس (عدمي)، كما يرى البعض (وﻻ خيالي أو غير واقعي)، بل هو ما ارتضته جموع الشعب وثائراته وثائريه، فلماذا ﻻ تحترم هذه القوى (قوى التسوية)، خيارات الشارع وتطلعات الثوار؟.
السودان اﻵن في مرحلة تتطلب التجرد التام ونكران الذات، وأن نضع مصلحة البلاد فوق كل مصلحة سواءً كانت حزبية أو ذاتية. الشعب في هذه المرحلة أحوج ما يكون الى الشفافية والصراحة والوضوح ممن يتصدرون المشهد السياسي، ويديرون الحوارات واﻻجتماعات إنابة عنه، وغالبها دون تفويض حقيقي، سواءً من الشعب السوداني أو من قواعدهم. فحوارات الغرف المغلقة واﻻتفاقات تحت الطاولة لن تحقن الدماء، ولن تجنب الوطن السقوط أو اﻹنهيار، بل قد تسرع بذلك، وقد تحيل الغبن والظلم الى غضب أكثر قوة واشتعالاً، تصعب السيطرة عليه أو كبح جماحه.