هل تأخرت القاهرة أم تطاول الانقلاب؟
بقلم: محمد بدوي
وئد مقترح المبادرة المصرية التي طارت بها من القاهرة إلي الخرطوم الصحفية المصرية والباحثة بمركز دراسات الأهرام الأستاذة أسماء الحسيني، لا نحتاج لتقصي السبب لأنه بديهي مرتبط بانعدام إيه صفة دبلوماسية حكومية أو إقليمية للوسيط، تخول التواصل مع الطرف الثاني، مما أنعكس على حرمان المبادرة من أي وزن سياسي بل قفل المنافذ بذات اليد التي حملت مخطوطة التفاصيل ، فلو تأخرت الأستاذة الحسيني خطوة ليتقدمها السفير المصري في الخرطوم ربما فرضت الدبلوماسية رد فعل يتطابق مع النهايات التي وصلت اليها لكن بطريقة تتسق والعرف الدبلوماسي ولا سيما أن المسرح يشهد تزاحم لأدوارا سفراء لدول أخري مثل المملكة العربية السعودية الذي شهد مقر أقامته لقاءات متعددة مع عدد من الأطراف المدنية والعسكرية السودانية ممن هم على قمة السلطة خلال الفترة الإنتقالية بشقيها سواء عقب سقوط نظام الحركة الإسلامية في ابريل ٢٠١٩ وبعد انقلاب ٢١ أكتوبر٢٠٢٢، إذن حملت المبادرة أسباب رفضها في الشكل الذي يشكل عنوان للمحتوي، لماذا ؟ لأن الحالة وصلت للتوقيع على اتفاق عرف بالإطاري بين المكون العسكري وممثلي لأجسام الحرية والتغيير، تحت رعاية رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم الفترة الانتقالية في السودان السيد فولكر بيرتس، وتجدر الإشارة الي ان البعثة مستندة على تفويض من مجلس الأمن الدولي بالقرار ٢٤٢٥/ ٢٠٢٠، و رعاية الألية الرباعية التي تشمل ” الولايات المتحدة، بريطانيا، المملكة السعودية والأمارات العربية”، إذن من حيث التوقيت فالمقترح تجاوز السياق بما في ذلك مرحلة الإطار او المحتوي، ومن حيث الفاعلين المشار اليهم يتطلب التدخل من ناحية فنية التواصل مع كافة الأطراف بما يشمل ممثلي الالية الرباعية المتواجدين بالخرطوم بما جعل المسافة بينهم واطراف الاتفاق اقصر من المسافة بين الخرطوم والقاهرة رغم قربها التاريخي والنيلي، هذا الاتصال يصعب مروره بغير الطريق الدبلوماسي لمسالة الصفة ايضا، لكن ضرب كل ذلك بعرض الحائط والقفز المسنود بتصورات مباشرة نحو الاطراف لا ينتهي الا بإمساك الريح، أو ارتداد الكف تدق على الكف، المتابعة للمسرح تمكن من التقاط اشارات تشير الي ما يحدث الآن ” الطريق من اتجاه واحد” فليس ببعيد التصريح الذي دفع احد القادة بالمكون العسكري كاشفا عن الضغوط على الاطراف للمضي قدما .
لم تيأس القاهرة ، ووفقا لوسائل الإعلام اعتذار حديث لتحالف قوي الحرية والتغيير من تلبية زيارة للقاهرة، لا اجد سوي ترديد ذات التعليقات السابقة مع إضافة تساؤل هل فات على القاهرة ان الاطراف قد استأنفوا في بحر يناير٢٠٢٣ المرحلة الثانية من عملية التفاوض؟ أم على ماذا استند الأمر ؟ في تقديري أن القاهرة التي استضافت المعارضة السياسية في التسعينات لم تستصحب أن المشهد كما كان سواء من الجانب السوداني أو القاهرة ولا سيما خلال فترة البشير الاخيرة وبعد سقوطه، حيث التباينات التي كسرت ظهر الثقة التي راكمت لها في فترات حرجة، ففي ٢٠١٤ ورغم استضافتها المتواصلة لمولانا محمد عثمان الميرغني الإ أن الراحل السيد الصادق المهدي الذي حمل صفة آخر رئيس وزراء آنذاك توقف لساعات بمطار القاهرة قبل أن يتجه للأمارات العربية، هذه الدلالات كشفت أن الامارات عرفت اقتناص الفرصة في توقيت تزامن مع تكوين قوات الدعم السريع في ٢٠١٤ وبداية اول تعامل في الذهب المستخرج من دارفور الي اسواق دبي والذي قدر عائده ب ٥٤ مليون دولار في ٢٠١٤ وفقا لتقارير خبراء الامم المتحدة.
بعد سقوط البشير سارعت القاهرة لاستضافة كبار الجنرالات، الفريق عوض بن عوف قائد الاستخبارات ورئيس المجلس العسكري الانتقالي لساعات في ٢٠١٩،والفريق صلاح عبدالله ” قوش” اخر مدير لجهاز الامن في عهد البشير، وهو ما يكشف منهج الجهود المصرية وارتباطه بالعسكري اوالامني مقابل طبيعة الحالة السياسية التي تنطلب ادوات مختلفة تماما، فرغم السيطرة المشتركة لجنرالين على السلطة في السودان تراجعت زيارات حميدتى للقاهرة، ورغم وقوف الخرطوم في حلف القاهرة في ملف سد النهضة وصلت اديس ابابا للملأ الثالث، وهرعت لتجميد عضوية السودان بالاتحاد الافريقي عقب انقلاب ٢١ اكتوبر٢٠٢١ لتمنح في وقت سابق كل من الاتحاد الافريقي والايقاد مقاعد الوسطاء مع استمرار فشل الانقلاب، لعل التساؤل المهم ايضا هل قيمت القاهرة قبل دعوة الحرية والتغيير لزيارتها، اسباب تمكن جوبا في استضافة مفاوضات سلام السودان ٢٠٢٠ رغم سعيها الي ذلك! ظل نظام الحركة الاسلامية مستعدا للقاءات والتفاوض مع الحركات المسلحة بينما يقصي الاحزاب السياسية من ذات النهج بل لا يأبه بها كثيرا سياسيا، الأمر كان ناتج من نهج القوة في ادارة الحالة مع اقصاء السياسي، وذلك لان نظام الحركة الاسلامية لم يعترف بمفهوم الاحزاب فالدولة تدار بواسطة الحركة، ولولا انقسام ١٩٩٩ لما برز تقابل ” الشعبي والوطني” فالسياق اقرب للتمييز بين المجموعات مع بقاء تطابق الاهداف الرئيسية لكل، بل أن قفص اتهام محاكمة انقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩ لم يتخلف عنه اعضاء من المؤتمر الشعبي الي جانب رئيس حزب المؤتمر الوطني ونائبه، اقصاء المفهوم غيب معه المحطات الرئيسة او مصادر القوة من أكتوبر ١٩٦٤،ابريل ١٩٨٥ اللتان اعتمد عليهما ابريل ٢٠١٩ في سياق التراكم والتجربة واجلاء الرغبة نحو الديمقراطية فاسقط نظام الحركة الاسلامية، كل هذا يكشف خصوصية الحالة السودانية وقدراتها ، رغم حكم العسكر في لفترات طويلة لكنه يحمل سجلا تاريخيا لقائمة أقدم الأحزاب السياسية في القارة وقدرتها على مقاومة كافة اشكال التفكيك والتغييب عن المشهد السياسي الوطني وهو ما حاول بعض داعمي التسوية السياسية الراهنة توظيفها عبر تصريحات ” دون الخوض فيها” حملت الاعتراف بدور الاحزاب الرافضة للتسوية في المشهد مكمل لا يمكن الوصول حتى الي التسوية من دونه.
أخيرا: فشلت المبادرة في اقتناص ما لاح لها من قطع الطريق على التسوية في ظل رفض الشارع الذي لم تتراجع مواكبه لان الانحياز نحو الشعوب لا يمر بالطريق الثالث بل بمخاطبة مصالحها وتطلعاتها فما لم تراه في الاطاري، غيبته المبادرة من المدخل الاول، لان الواقع الذي اسقط نظام الحركة الاسلامية يستحق ما يرتقي لقامته.