ناجون من أحداث الجنينة يروون لـ(مدنية نيوز) ما شهدوه من فظائع (2-2)
تقرير: مدنية نيوز
بذاكرة محملة بكثير من الالام والهموم، والخوف من المجهول، وفقدان اعز الناس، ووجوه عابسة، تحمل اثار رسومات خطها الزمن بقسوة، ومرارة تذكر ايام كالحة السواد عاشوها، سرد لنا مواطنون ما تعرضوا له من إنتهاكات من قبل قوات الدعم السريع والمتحالفين معها، فاقت كل تصورات العقل البشري إبان الصراع الذي اندلع بمدينة الجنينة بولاية غرب دارفور. تلك الأحداث التي استمرت من شهر ابريل حتى منتصف نوفمبر من العام 2023م. ووصفت بانها إبادة جماعية لشعب قبيلة (المساليت) والذين لعبوا دورا هاما وثقه التاريخ من خلال معارك خاضوها مع الجيش الفرنسي لحماية تلك البقعة الغربية من السودان، وهزيمتهم للعدوان الفرنسي ضمن سلسلة من المعارك، اخرها معركة (دروتي الشهيرة)، والتي قتل فيها قائد الفرنسيين (مول) على يد جيش المساليت بقيادة السلطان تاج الدين إسماعيل.
في الجزء الأول من التقرير والذي نشر سابقاً وتوثيقا للأحداث؛ استطقنا عدداً من شهود الأحداث، والذين نجو من موت محقق مستصحبين معنا تقرير هيومن رايتس والذي نشرته في وقت سابق تحت عنوان (المساليت لن يعودوا الي ديارهم). في هذا الجزء نحاول ان نغطي إفادات شهود آخرين.
ذكريات مؤلمة
على الرغم من مرور اكثر من عام على الحرب عموما والأحداث التي شهدتها مدينة الجنينة حاضرة ولاية غرب دار فور، إلا أن (أ) والذي استنطقناه باعتباره احد الناجين والشهود على تلك الأحداث، يقول إنها ما تزال أمام ناظريه وكانما يراها الآن.
جائنا صوته حزينا وكأنه خرج لتوه من الأحداث، وقال بعد ان اخذ تنهيدة عميقة: “عقب اندلاع الحرب تشتت الأسر في عدد من أحياء المدينة الآمنة، ومثلي مثل غيري افترقت عن اسرتي، وقررنا انا ومعي اثنين من اخوتي ان نقطن بمنزل احد الأقرباء والذي حمل اطفاله وتوجه نحو تشاد منذ الايام الاولى للحرب. ومكثنا بمنزله لأيام حيث كنت اخرج عقب صلاة الصبح لجلب احتياجاتنا اليومية، من أكل وخلافه واعود سريعا، حتى لا يعرف اهل الحي باننا موجودون بالمنزل، ويخبرو عنا خاصة وأن الحي الذي بجانبنا تقطنه قبائل عربية وبعض القبائل المساندة لهم وللدعم السريع، وبذلك يمكن ان تتعرض حياتنا للخطر، فيما يظل اخوتي مختبئين داخل المنزل بسبب ان لون بشرتي لا يميل للسمار، فبالتالي لا يمكن ان يشك احد بانني انتمي لقبيلة (المساليت)، فقد كنا مستهدفين باعتبارنا ننتمي اليها، بجانب أننا من أسرة معروفة وعريقة، فضلا عن ان الاستهداف كان يطال الاشخاص المتعلمين منا، وكنا ثلاثتنا نشغل مناصب بعدد من المؤسسات بالجنينة.
البحث عن الأمان
ويتابع (أ) في الرابع عشر من يونيو المنصرم وهو اليوم الذي أغتيل فيه والي الولاية الجنرال خميس ابكر، خرجت كالعادة وتفاجأت بأعداد كبيرة من المواطنين قادمين من اتجاه حي المدارس تجاه حي السلام (ب) باعتباره آمنا، مرورا بحي السلام (أ) الذي كنا نتواجد به، فتخوفت ورجعت مرة أخرى للمنزل، وتفأجات بسكان الحي وهم مسلحون يخرجون تجاه القادمين، وكان لديهم ارتكازات، ويمنعون اي فرد للدخول للحي خصوصا في الليل، وفي الليلة السابقة لمقتل الوالي تم ضرب مواطنين كانوا يبحثون عن الأمان وطردهم ونعتهم بـ(العبيد).
ويقول: “ما حدث بعد ذلك تم تجميع كل القادمين وفرز النساء عن الشباب والرجال كبار السن، الذين طلب منهم ان ينبطحوا ارضا وعلى بطونهم، وفي صف واحد، ومن ثم مارسوا الجري على بطونهم وصدورهم من اول واحد لاخرهم، ومن ثم يعيدون الكرة مرة اخرى من الاتجاه الآخر، وهم يلبسون (البوت) وهو (نوع الحذاء الذي يرتديه الجنود) في كل جزء من اجسامهم.. ومن ثم مورس عليهم كل انواع الضرب، والإساءات العنصرية، وعندما ارادوا تحريكهم هناك شباب لم يستطيعوا التحرك من الارض من شدة الضرب فتم ربطهم جميعا ومن ثم توجهوا بهم ناحية مكان بحي الامتداد يسمى بالصينية، ويستخدم لتصفية المواطنين، والتخلص منهم، وقد علمت بعد ذلك بأنه تم قتلهم جميعا”.
ويضيف: “للعلم الذين مارسوا كل تلك الافعال انا اعرفهم معرفة شخصية وبأسمائهم، ففيهم من القبائل العربية وآخرين من قبائل اخرى، فيما تم تفتيش كل ما تحمله النساء وتجميعه في مكان واحد وسرق النقود وكل ما وجوده نافعا لهم وحرق بقية الأمتعة. وطرد النساء تجاه الغابة، وفي تلك الاثناء هناك شباب لا يقل عددهم عن الثلاثين فردا استطاعوا العبور لحي السلام (ب)، غير انه تم القبض عليهم من قبيلة مساندة، وربطهم كالبهائم، وممارسة الضرب عليهم وهم يعبرون الطريق ومن ثم تصفيتهم جميعا، وقد شاهدنا كل ذلك من داخل المنزل بحذر وخوف شديدين من ان يتم كشف وجودنا”.
خطر محدق
ويواصل (أ): “بعد ماشاهدناه احسسنا بان الخطر يحدق بنا من كل جانب، فقررنا ان نخرج من المنزل، وحتى الخروج بعد ذلك اصبح مشكلة بالنسبة لنا، لانهم كانوا يتجولون بالمواتر والعربات، فقررت الاستعانة باحد المعارف من قبيلة اخرى وينتمي لولاية ثانية من ولايات دارفور، وبالفعل عندما التقيته واخبرته برغبتنا في ان يخرجنا لاحدى الاحياء الآمنة وجدته يبكي بحرقة من هول ماشاهده من تعذيب وقتل لاولئك الشباب وهو يردد (ماحدث ليس من افعال السودانيين، ولا يوجد رجال يهينون آخرين بهذه الطريقة.. ونصحني بان لا نتحرك في هذه الظروف خوفا على حياتنا، ولكن والحديث مازال لـ(أ) كان لابد لنا من التحرك، بدلا من انتظار الموت في مكاننا، بعد ذلك استعنت بصديق اخر فاتى الينا بعد ساعة، وخرجنا انا واخي فيما تركنا ثالثنا ليذهب للبحث عن بقية الاسرة والاطمئنان عليهم، وفي الشارع كنا نجدهم وهم منتشرون بالشوارع جزء يرتدون زي الدعم السريع واخرين يرتدون الزي التشادي (الكبتاني) ولولا وجود ذلك الشاب معنا، وهم يعرفونه لتم قتلنا دون شفقة، واثناء مرورنا حتى لحظة وصولنا لحي الامتداد وجدنا اعداد مهولة من جثث الشباب والنساء على قارعة الطريق الذين خرجوا من حي المدارس صبيحة مقتل الوالي، فتم قتلهم في الشارع وهم يفرون بحثا عن الأمان”.
التخفي لأيام
ويواصل الشاهد: “عندما وصلنا لوجهتنا مكثنا هناك لايام، ولكننا كنا ايضا متخفين حتى لا يتم استهداف اصحاب المنزل باعتبارهم يخبؤوننا، وفي تلك الاثناء كنا نحتاج لجمع مبلغ للخروج لتشاد واستعنا بشخص من القبائل العربية لإخراجنا، وفي العربة طلب منا بان لا نذكر باننا من قبيلة (المساليت) ورغم ذلك تم ضربنا، وتفتيشنا على امتداد الطريق حتى وصولنا لأدري التشادية، ولا اعرف ما هو اليوم الذي وصلنا فيه لاني اصبحت اعاني من النسيان من هول مامررنا به”.
أحداث عصيبة
المواطن (ع) والذي مر بأحداث عصيبة ابتدأء من الأحداث التي اندلعت في الجنينة في العام 2019م مرورا بأحداث كريندق الاولى، ومن ثم كريندق الثانية، ففقد ومعه زوجته واطفاله منزلهم حتى انهم اصبحوا مجرد مستضافين داخل مدينة الجنينة لسنوات، يقول إن الاحداث عندما اندلعت كانت بين الجيش والدعم السريع، ولكن سرعان ما تغير الامر وصارت المواجهة ما بين المواطنيين والدعم السريع، “لنصبح بين ليلة وضحاها مستهدفين ومطاردين، وحتى الاستهداف كان لإثنية معينة”.
أيام عصيبة
يصمت قليلا ويواصل قائلا: “مررنا بأيام عصيبة لا يمكن نسيانها، حيث تم الاستهداف داخل المنازل سواء كان بالذبح، او الطعن او رمي الهاونات “قذائف” على المواطنين، الامر الذي جعلنا نخرج من منازلنا بحثا عن مناطق آمنة، واستقرينا بحي الجمارك، وهناك ايضا لم نسلم من القذائف والهاونات وكان معظم الشهداء من النساء والاطفال”.
ويتابع: “كنا نتجول من مكان لآخر حتى لحظة مقتل والي الولاية الجنرال خميس ابكر، واثناء تجوالنا ذلك تم القبض علينا ومن ثم انهالوا علينا بالضرب وهم يسألوننا ان كنا من قبيلة (المساليت ام لا)، فتدخل احد الرجال الكبار وقال لهم اتركوهم ولا تقتلوهم، وتركونا وهم ينعتوننا بـ(الامبايات) مفردها (امباي) وهو (مصطلح عنصري يستخدم للقبائل غير العربية بمعنى العبد او النوباوي).
طرد إثني
ويضيف: “حاولنا الوصول لاردمتا مرورا باحياء خرجنا منها ونحن حفاة، وتمزقت ملابسنا وقالوا لنا بالحرف الواحد (لا نريدكم بالجنينة). ويشير الى انهم تعرضوا للضرب الشديد بكعب البندقية لحظة خروجهم من اردمتا لمنطقة إدري الحدودية، وذلك بعد تفتيش دقيق، ويصف ما حدث بانه استهداف واضح ويقول “كل من ينكر ذلك فهو كاذب، ويختتم حديثه بانهم حاليا بمنطقة ادري ونفس من تسببوا بطردهم من الجنينة متواجدين هناك، اي لا يوجد امان كاف، ولكنهم لا يستطيعون فعل شيء لانهم داخل دولة اخرى”.
وكشف تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش، عن استخدام مقاتلي الدعم السريع والمليشيات التابعة لها خلال حملتھم، شتائم عنصرية مھینة ضد المسالیت والأشخاص من المجموعات الإثنیة الأخرى غیر العربیة، وقالوا لهم بان “الأرض سيتم تنظيفها”.
توفير الحماية
ووفقا لتقرير هيومن رايتس فانه بعد نحو خمسة أشھر من مذبحة 15 یونیو قتلت قوات الدعم السریع والملیشیات المتحالفة معھا مرة أخرى ما لا یقل عن ألف مدني في ضاحية أردمتا بالجنينة، كما نھبت القوات ممتلكات المدنیین، واعتدت على عشرات الأشخاص وأغلبهم من المسالیت، واحتجزتھم بشكل غیر قانوني ونتیجة لھذه الفظائع، یعیش الآن أكثر من 570 ألف شخص، غالبیتھم من المسالیت، بالإضافة إلي افراد من الجماعات غیر العربیة الأخرى، في مخیمات اللاجئین في تشاد، دون أمل یذكر في العودة الآمنة إلى دیارھم في المستقبل القریب.
أحد الذين التقت بهم (مدنية نيوز) قال ان ما واجهوه يصعب سرده، حتى انه يتمنى ان يمسح من ذاكرته، فالمآسي كثيرة واكثرها ألمًا ووجعا وفاة ابن شقيقته الصغير وهو محمول في ظهر اخته التي تكبره سنا، عندما حاولت ان تهرب وتحتمي به داخل المسجد فاصابه احد القناصين بطلقة في راسه ليتوفى وهو في ظهر اخته”.
عمر جديد
المواطن (م،أ) أحد الذين كانوا شهودا على الأحداث التي اندلعت بأردمتا وشهد على تصفية عدد من جيرانه، كما تم اغتصاب شقيقته امام ناظريه على الرغم من انها ذكرت لهم بانها في مرحلة (العادة الشهرية) الا انهم لم يتركوها، يقول في تسجيل فيديو بثه بعد أن كتب الله له عمرا جديدا: “عندما اندلعت أحداث أردمتا تم جمعنا حوالي (15) شخصا من الجيران، وطلب من الأربع عشرة ان ينبطحوا في الارض، ومن ثم تم تصفيتهم من خلال اطلاق الرصاص في رؤوسهم أمامي، وطالبوني بان انبطح ارضا ولكني رفضت وقلت لهم ان اليوم واحد، فتم ضربي على رأسي ورقبتي، وقص اربعة من اصابع يدي، ومن ثم صدمي بعربتهم، ويضيف اصبحت لا استطيع الحراك، فقاموا بوضع جثتين من تلك الجثث علي وذهبوا”.
ويقول: إنه مكث على هذه الحالة ليومين حتى أتى أحد الاشخاص ولاحظ أنه حي، فأزاح عنه الجثث، ومن ثم احضر له ماء مخلوط بدقيق، كما أنه أتى بفول ووضعه أمامه وقال له حاول وحدك، وأنه لا يستطيع ان يفعل له اكثر من ذلك، وتابع: “تركني وذهب حتى أتى بعض المارة واسعفوني لمستشفى السلاح الطبي، ومن ثم إلى منطقة أدري التشادية”.