شرق الجزيرة.. الحرب تخاض على أجساد النساء (2-5)
نساء يقطعن طرق الموات لمرات عديدة
كتبت: صافية محمد
(1)
عندما قررت أسرتي الخروج في رحلة شاقة، كنا نبحث لزمن طويل عن سيارة تقلنا لمكان آمن لأن والدتي، عماتي وأبي كبار في السن ومرضى لا يقون على السير على الأقدام لفترة، وجدنا عربة ستجلينا نحن مجموعة نساء الأسرة، أبي، زوجي وإخواني الأثنين، بعد مفاوضات مميتة دفعنا لصاحب العربة ما يقارب ما قيمته ال3000 دولار، لمسافة لا تزيد 150 كيلو، خرجنا نترك خلفنا ماضي وذكريات بنيناها بشقاء عمر طويل، ثمنها غربة أبي، شقاء زوحي وحصاد عمر طويل. فور خروجنا من قريتنا سرنا لأكثر من 20 كيلو في قرى فارغة يسكنها الموت، شوارعها تملأها الجثث والعصابات، قرى، مؤسسات ومشاريع باتت خاوية على عروشها، بكينا كثيرا ونحن نتذكر ما قدمه مصنع سكر الجنيد للسودان، ما قدمته الهلالية لطلبة العلم والقراءن، يا إلهي أين مزارع القصب، مشاريع الذرة، هنا كانت مدرسة وهنا منزل كريم قوم فتح أبوابه لأكثر من 500 نازح وقتلوه عندما دافع عنهم.
(2)
ظننا أنا ما رأيناه كان الجانب المؤلم من القصة لا… فنحن نسير وسط أدغال وجثث، تجد مرميا في الطريق المصلوب من خلاف والمعلق من رقبته، المبقورة بطنه، أطفال، نساء كبار سن ماتوا من الجوع والعطش في رحلة سير على الأقدام… وصلنا المحطة التي كنا نحسبها جُزافاً أنها آمنة، فالطريق نحو الشمال بات الملاذ، أوقفنا العربة التي تقلنا في مسيد قوم كرماء من أم ضوبا بان وكانت هذه أعظم استراحة شعر فيها أطفالي وأمي مريضة السكري بالأمان، أطعمونا، قدموا لنا الحب في رحلة موت غريب، فلقد وصلناهم ونحن نحس طعم الموت في أفواهنا- طفلي لا زال مفجوعا من هول المناظر- ارتفع السكري في دمي أمي وكدنا أن نفقدها- جزعت عمتي وقررنا العودة لمئة مرة فالأهون لنا أن نموت داخل ديارنا ولا نرى جزيرتنا وديار قلبنا حزينة ميتة… أطفالي يتضورون جوعاً ولا يمكن أن نقف لإطعامهم لأن الوقوف موت… نحمل بعض من البسكويت لكن الرعب يملأ قلوبنا ويدانا لا تقوى على فتح الحقائب.. نحمل قليلاً من الماء لكن هارت قوانا ولا يمكننا حتى أن نقوى على حمل زجاجة مقدار كوب ماء.. نسينا أطفالنا وبناتنا الذين خرجنا لحمايتهم وكدنا نفقدهم جوعا.
(3)
وصلنا أم ضوبا بان وتساوى لدينا الموت بالحياة، إلا من ترحيب أهلها الذين تعودوا على تطمين القلوب تزودنا بحب الناس، قليل من الماء وخوفُ ووجع من الرحلة لا يمكن تصوره، لم تمر علينا نصف ساعة ونحن نستغل عربة مخصصة لنقل الرمل كالبهائم، حتى خرج علينا من لا يرحمون شاهرين أعتى الأسلحة وكأنهم يواجهون عتاة الجنود والأعداء، نحن العزل ومعظمنا نساء وأطفال، رجل كبير وثلاث شباب أكبرهم زوجي الذي لم يتعدى الأربعين، أنزلوا الرجال أرضاً وأرعبونا ساوموهم في شرفنا وعندما حاولوا الدفاع عنا كان نصيب زوجي طلقتين في الرأس أردته قتيلاً في الحال، أجبروا إخواني على حفر قبورهم وربطوهم في داخلها وطلبوا فدية قدرها 50 مليار مقابل إطلاق سراح أبي الثمانيني، تركونا نذهب تاركين خلفنا جثة زوجي، أخواني داخل قبورهم وأبي المقبوض عليه، وكلنا نساء هذه المرة الأولى التي أجبرتنا الظروف فيها على الخروج من قريتنا، نهوم على وجوهنا لا من دليل.