روسيا والمحكمة الجنائية الدولية: سجال حول دارفور وأبعاد جيوسياسية
بقلم: إدريس عبد الله
في تصعيد لافت، جددت روسيا دعوتها لسحب ملف دارفور من المحكمة الجنائية الدولية، معتبرةً أن المحكمة “أداة استعمارية جديدة” تتجاوز صلاحياتها. هذا التصريح، الذي أدلت به نائبة المندوب الدائم لروسيا في المحكمة، ماريا زابولوتسكايا، أثار جدلاً واسعاً حول دور المحكمة في تحقيق العدالة في السودان، وموقف روسيا الذي يثير تساؤلات حول دوافعه الحقيقية.
روسيا والمحكمة: خلاف قديم
ترى روسيا أن المحكمة الجنائية الدولية تتجاوز تفويض مجلس الأمن الدولي في تناولها لأوضاع دارفور، وتدعو إلى سحب الملف قبل أن يؤدي إلى “عواقب كارثية”. وتزعم زابولوتسكايا أن المحكمة “دأبت على تخريب” مهمة مجلس الأمن في دارفور على مدى 20 عاماً، وأنها تسعى الآن للتدخل في الوضع الحالي دون تفويض.
في هذا السياق، يؤكد خبير العلاقات الدولية أحمد عثمان أن روسيا كانت، ولا تزال، لاعبًا رئيسيًا في الأمم المتحدة منذ تأسيسها، حيث أسهمت بفاعلية في صياغة أهداف المنظمة ومبادئها. وعلى مدار التاريخ، اتسمت علاقتها بالمنظمة وهيئاتها بالتعاون والدعم، رغم بعض التحفظات والانتقادات.
وأضاف عثمان أن الاتحاد السوفيتي كان في بدايات الأمم المتحدة من أبرز داعميها، إذ اعتبرها منصة للحفاظ على السلام والأمن الدوليين وتعزيز التعاون بين الدول، ولو ظاهريًا. ومع ذلك، كانت لديه تحفظات بشأن تدخل المنظمة في الشؤون الداخلية للدول واستغلالها أحيانًا كأداة هيمنة من قبل القوى الغربية، وهو ما يمكن فهمه في سياق التنافس بين القوى العظمى.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حافظت روسيا على مقعدها الدائم في مجلس الأمن واحتفظت بحق النقض “الفيتو”، وواصلت تعاونها مع الأمم المتحدة في مجالات عدة، مثل حفظ السلام، مكافحة الإرهاب، والتنمية المستدامة. ومع ذلك، لم تتردد في انتقاد بعض ممارسات المنظمة، معتبرة تدخلها في الأزمات الدولية غير فعال أو منحازًا. ويؤكد أحمد أن روسيا تشدد دائمًا على مبدأ سيادة الدول، مستخدمة إياه كورقة ضغط سياسي، خاصة عندما تتعارض التدخلات الدولية مع مصالحها، إذ تعتبرها انتهاكًا لسيادتها أو لسيادة حلفائها.
هذا الموقف يظهر بوضوح في علاقتها بالمحكمة الجنائية الدولية، التي تراها أداة سياسية توظفها بعض الدول الغربية لتحقيق أهدافها. ومن هنا، جاءت مطالبتها بسحب ملف دارفور، معتبرة أن المحكمة لا تملك الولاية القضائية على السودان، وأن القضية ينبغي أن تُحل عبر الآليات المحلية والإقليمية. في الوقت ذاته، تسعى روسيا لتعزيز نفوذها في إفريقيا وكسب حلفاء جدد، بما في ذلك حكومة بورتسودان، إذ ترى في القارة سوقًا واعدة للأسلحة والطاقة والموارد الطبيعية، إلى جانب رغبتها في تأمين موطئ قدم في البحر الأحمر.
دارفور: ساحة سجال جديدة
يرى الخبير القانوني عبد الباسط الحاج أن موقف روسيا لا يعدو كونه محاولة لعرقلة عمل المحكمة وتحقيق مصالح جيوسياسية في المنطقة. ويشير إلى أن روسيا، التي ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، لا تستطيع سحب الملف من المحكمة، خاصة أن قرار الإحالة صدر من مجلس الأمن، حيث تتمتع روسيا بحق النقض.
علاوة على ذلك، تواجه موسكو حالياً إشكاليات متعددة مع المحكمة الجنائية الدولية، إذ تتهمها بالتحيز وتطعن في قراراتها، بما في ذلك أوامر الاعتقال الصادرة بحق مسؤولين روس، على رأسهم الرئيس فلاديمير بوتين. ويعود هذا التوتر إلى اتهام المحكمة القوات الروسية بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي في أوكرانيا، وهي جرائمٌ تندرج ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. ردًا على ذلك، سعت موسكو لتعطيل عمل المحكمة بشتى الطرق، بل وصل بها الأمر إلى إصدار أوامر اعتقال داخلية بحق المدعي العام للمحكمة وبعض المسؤولين الآخرين فيها.
أبعاد جيوسياسية واقتصادية
يرجّح الحاج أن دوافع روسيا تتجاوز خلافها مع المحكمة الجنائية الدولية، إذ ترتبط بمصالحها الاستراتيجية في منطقة البحر الأحمر، حيث تتنافس مع دول غربية. فمن خلال دعم حكومة بورتسودان، تحاول روسيا ضمان ولائها وتأمين قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر، ما يعكس مساعيها لتعزيز نفوذها في السودان.
الموقف الدولي
الموقف الروسي يواجه معارضة من دول غربية تدعم المحكمة الجنائية الدولية وتعتبر دورها ضروريًا لتحقيق العدالة في السودان. ويرى مراقبون أن هذا الخلاف يعكس صراعًا جيوسياسيًا أوسع بين روسيا والغرب، حيث يُستخدم ملف دارفور كأداة لتحقيق مكاسب سياسية.
مستقبل العدالة في دارفور
يرى الحاج أن سحب ملف دارفور من المحكمة أمر مستبعد في الوقت الحالي، نظراً للدعم الذي تحظى به المحكمة من دول غربية. وبدلاً من ذلك، يمكن اللجوء إلى تفعيل “الولاية القضائية العالمية”، التي تسمح بمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أي مكان في العالم.
من جانبه، يقول آدم موسى، مدير منظمة مناصرة ضحايا دارفور، إن موقف روسيا يعكس مخاوفها من المحكمة الجنائية الدولية، خاصة أنها تواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب وعمليات تطهير عرقي شبيهة بما حدث في دارفور. ويرى موسى أن هذا الخوف طبيعي، لأن روسيا لا تؤمن بالعدالة، محذرًا من أن استمرار دعمها لهذه الممارسات يعكس حالة من التخبط، لا سيما أن سحب ملف دارفور من المحكمة، المُحال إليها منذ 2005، يتطلب تصويتًا بالإجماع من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
وفي هذا السياق، أكد موسى أن منظمته تدعو إلى تحقيق العدالة في دارفور، مطالبة بتسليم عمر البشير، أحمد هارون، وجميع المطلوبين إلى المحكمة.