السبت, مايو 24, 2025
تقاريرسياسة

السودان أرض البطولات والثورات (2)

كتب: حسين سعد

جسدت ثورة ديسمبر معان وقيم عديدة أهمها إصرار الشعب و(الشفاتا والكنداكات) على تحقيق أهدافهم وغاياتهم، وصون عزة الشعبنا السوداني الجسور وكرامته، وقدرته على تجاوز ما يتعرض له من تحديات وصعوبات ما كان من الممكن التغلب عليها إلا بوحدة الشعب، وإصطفافه خلف لجان المقاومة وتروسها الذين مهروا ثورتنا الظافرة بدمائهم، نتمنى لهم الرحمة والمغفرة والشفاء العاجل الشفاء للمئات من الجرحى و المصابين، وعودة ظافرة للمفقودين، وأستبق الثوار مليونية 30 يونيو، بمواكب بالإحياء والمحطات الرئيسية أطلق عليها (غنجات) ويتمسك الثوار باللاءات الثلاثة (لا تفاوض ولا شراكة ولا شرعية) وهم يرددوا عاليا (ها مرة أخرى سنخرج للشوارع شاهرين هتافنا ولسوف تلقانا الشوارع بالبسالات) لقد أكدت ثورة ديسمبر عدم إمكانية فرض الأمر الواقع على الشعب المعلم الذي وصفه شاعره الراحل محجوب شريف (وحياة الشعب السوداني في وش المدفع تلقاني قدام السونكي حتلقاني، وأنا بهتف تحت السكين والثورة طريقي وأيامي معدودة وتحيا الحرية) إرادة الشعب أصبحت هي القوة المحركة التي تحدد مصير الوطن، لقد حملت الثورة معان وقيما نبيلة نهتدي بها وتحكم عملنا الوطني،واليوم نحن اذ نستقبل ذكري الثورة في أبريل 2025م نقف إجلالا وإكراما، للشهداء وبالرغم من الحزن الدفين المسيطر على نفوسنا جراء فراقهم، ومغادرتهم الجسدية لنا، لكننا سنبقى فخورين بشجاعتكم، وبما قدمتموه للشعب السوداني المعلم من مآثر الشهامة والجسارة والعطاء الوطني الصادق، ففي شجاعتكم فخر لا يضاهيه فخر، لذلك ظل الثوار يهتفوا عاليا (شهداءنا ما ماتوا عايشين مع الثوار) ونتذكر دوما وصية الشهيد عظمة (لقد تعبنا ياصديقي لكننا لن نستلق أثناء المعركة) هذه الوصية أمانة، وهي تاريخ متجدد يجب ان تستنهض الهمم والإرادة الجسورة لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، والمضي قدما على درب النضال.

شعب معلم:

واليوم وغدا نحن بحاجة الى الاقتداء بسيرة الشهداء في اقتحام التحديات والاستعانة بمناقبهم، وتحقيق تطلعات الشعب السوداني، وهذه في تقديري دلالة للوفاء والاخلاص للشهداء، وإنني على يقين بأن الشعب السوداني بالرغم من ويلات حرب منتصف ابريل 2023م وحياة الذل والاهانة والقتل والتشرد يقف اليوم بكل فخر واعتزاز وبكل ثقة وإيمان واطمئنان لاستكمال الثورة، إنه (شعب معلم) يرتكز على إرثه العظيم الخالد الممتد الى أعماق التاريخ، إنه شعب عظيم مقاتل وصبور علمه التاريخ بالاضافة الى سجاياه وخصائصه الخاصة، علمه تحمل الآلام والمعاناة، مسددا فاتورة عالية من التضحيات بالدماء والدموع ما جعل ثورتنا المجيدة ترتقي متفردة في ثورات الشعوب من أجل الحرية والكرامة،حيث خاض شعبنا الأعزل الذي تسلح فقط (بإيمانه القوي) ونحن اذ نتذكر تلك الأيام الخالدات نقف وقفة مع الذات من أجل الحفاظ علي تلك الذاكرة حية،ونحني هاماتنا إجلالا لأرواح الشهداء الطاهرة ونسترشد بتضحياتهم الجسيمة، حيث أعادت أرواح الشهداء عاطفة المحبة والوجدان المشترك بيننا كسودانيين،نعم هناك حزن ، وأيضا هناك روح لا تموت وعيون تذرف الدموع، وقلوب تخفق بالحب وبالشوق لهؤلاء الأحبة الذين ‏غادرونا، هؤلاء أيضاً ثروة ثقافية وفكرية لنا، اذا قراءنا وصاياهم، اعلاه كتبنا ما قاله الشهيد عظمة وايضا هناك الشهيد عبد الرحمن بقوله(انتو أشتغلوا شغلكم ونحن بنشتغل شغلنا) ،لذلك نقول لهم كما قال الشاعر الراحل علي عبد القيوم (أي المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها ..نحن رفاق الشهداء نابيع الثورة والداً وولداً نبايع السودان منبعا ومورداً)

دروس وعبر:

وكان الاستاذ عمار الباقر قد كتبت سلسلة من الحلقات في ذكري ثورة ديسمبر تحت عنوان (لنتذكر حتي نتعلم)، أستمرت التظاهرات منذ إندلاعها، ولمدة خمسة أشهر متواصله حتي أعلنت اللجنة الامنية لنظام البشير تنحيه، وتولي الحكم عبر مجلس عسكري انتقالي برئاسة ابنعوف، إلا أن جماهير شعبنا قد تعلمت من تجربتها السابقة في أبريل 1985م ،وأصرت علي اسقاط النظام كاملاً فاضطرت اللجنة الأمنية الي نتحية الصف الأول منها ،وأبقت علي الصف الثاني الذي تصدر المشهد منذ ذلك التاريخ وحتي هذا اليوم،وعلي الرغم من الانقسام الذي حدث علي مستوي الشارع بين من يري في المجلس العسكري الجديد امتداداً للنظام السابق ولجنته الامنية ومن يري فيها تغييراً ينبغي التعاطي معه ظل الشارع السوداني يقظاً ومتمسكاً بمطالب ثورته الأمر الذي شكل ضغطاً كبيراً علي الكثير من القوي السياسية التي كانت تري ضرورة التعاطي مع هذا القيادة العسكرية الجديدة واقتسام السلطة معها،إن تمسك الجماهير بمطالبها الثورية وضع الجميع في اختبار حقيقي حول مدي ايمانهم بشعارات الثورة، فعلي الصعيد العسكري بدأت قيادات نافذة في المجلس العسكري وقيادة الجيش التصريح علناً بأن إعتصام القيادة العامة إنما يشكل تهديداً أمنياً للجيش، كما ابدي عدد من القيادات السياسية تبرمها من أن هذا الاعتصام إنما يعرقل المفاوضات الجارية بينهم وبين عناصر المجلس العسكري الانتقالي حول اقتسام السلطة، كما عبرت مجموعات من رجال الأعمال الذين قاموا بدعم اعتصام القيادة العامة عن رغبتهم في إنهاء الاعتصام والوصول سريعاً الي اتفاق لان حالة عدم الاستقرار تلك تضر بالاعمال والتجارة،التقطت عناصر اللجنة الأمنية والذين هم مجموعة من الضباط المغامرين الذين تعوزهم الاحترافية هذه الاشارات فقرروا ارتكاب جريمة فض الاعتصام، متوهمين أنهم وكما كانوا يفعلون في دارفور وغيرها من مناطق البلاد أثناء حكم البشير سوف يتمكنون من اسكات صوت الجماهير. إلا أن الأمر قد ارتد عليهم يوم الثلاثين من يونيو حين خرجت الجماهير الغاضبة والمكلومة بالخروج في تظاهرات عارمة كادت أن تطيح بمجرمي المجلس العسكري الانتقالي لولا تدخل قيادات سياسية معروفة لانقاذهم ودعوة الجماهير للتراجع وعدم الذهاب الي القصر الجمهوري أو القيادة العامة، ومسارعة عناصر المجلس العسكري الانتقالي بالتراجع عن ما اعلنه رئيسهم ويديه لا تزالان تقطران بدماء شهداء فض الاعتصام بعدم الاعتراف بقوي الحرية والتغيير وإجراء انتخابات عامة خلال تسعة أشهر، ويتم فيها اشراك المؤتمر الوطني، وهنا لاينغي لنا أن ننسي الدور الذي لعبته بعض المنظمات الاقليمية وعلي رأسها الإتحاد الافريقي وبعض الدول أيضاً في حماية المجلس العسكري الانتقالي وفرضه علي المشهد السياسي علي الرغم من ارتكابه لجريمة فض الاعتصام
تلك كانت النكسة الأولي في مسيرة الثورة والتي انتهت بتوقيع وثيقتي الاتفاق السياسي والوثيقة الدمستورية وأتت بحكومة الفترة الانتقالية الاولي. وهنا تجدر الاشارة الي أن هذه النكسة قد أضعفت الثورة ولكنها لم تنجح في قتلها، وأضاف الباقر بقوله:إن كان ثمة دروس مستفادة من هذه النكسة فهي:

الدرس الأول: هو نقص إحترافية مجموعة الضباط الذين تصدروا المشهد في تلك الفترة فالناظر الي سيرتهم المهنية يجدها تفتقر الي التأهيل المهني والاكاديمي المطلوب لتقلد تلك الرتب التي يحملونها أو المواقع التي يشغلونها. كذلك من ينظر الي مسيرتهم المهنية يجدها قد اقتصرت في جلها علي قيادة المتحركات العسكرية أثناء النزاعات المسلحة، إما في أحراش جنوب السودان أو صحاري دارفور فهم لم يشغلوا مواقع إدارية حقيقية مرتبطة بالإدارة الاستراتيجية للعمليات العسكرية والتي تكون فيها طريقة حساب المخاطر وإدارتها مختلفة عن حساب المخاطر في قيادة المتحركات وهذا ما يفسر روح المغامرة المفرطة لديهم منذ الحادي عشر من أبريل وحتي اليوم. فالاحترافية ما هي إلا محصلة التأهيل الأكاديمي والخبرة العملية.
بالتالي فان مغادرة هؤلاء اضافة قادة المليشيات جميعهم بما يشمل الدعم السريع والحركات المسلحة جميعهم وخضوعهم للمحاسبة هو شرط ضروري للسلام المستدام.
ضعف الطبقة السياسية:

الدرس الثاني: هو ضعف الطبقة السياسية التي تتصدر المشهد اليوم، والذين يعتذر البعض لهم بأن نظام البشير وعلي مدي ثلاثة عقود قد أضعف معظم الاحزاب السياسية وعمل علي تجفيف صلاتها بالجماهير، إلا أن ذلك لا يبرر أسباب ضعفها الداخلي والتي هي مسؤولة عنه مسئولية مباشرة، حيث نجد ضعف اهتمامها بالبناء السياسي الجاد المتمثل في بناء مؤسساتها الحزبية القاعدية لتكون مراة حقيقة لنبض الجماهير في كل بقعة من بقاع السودان ووسط كل فئة من فئات الشعب، واكتفائها بالعمل وسط النخب التي هي كثيرة الكلام شحيحة البذل والتضحية فانعكس ذلك سلباً علي الحياة الداخلية في معظم الاحزاب السياسية التي سادت فيها الدسائس والصراعات حول القيادة والنفوذ كما أدي الامر الي غياب البيئة الصالحة لتأهيل الكادر السياسي وجفاف مصادر التمويل ذات البعد الجماهيري لديها فاصبحت تعتمد وبصورة كلية علي تمويل عدد محدود من رجال الاعمال بل وعلي بعض الدوائر الاجنبية فاصبحت بذلك رهينة لهذه الدوائر حتي شهدنا خوف العديد القادة السياسيين من مجرد الاشارة ناهيك عن انتقاد من ولغت ايديهم في قتل الشعب السوداني من دول الاقليم.

إن وقف الحرب واستدامة السلام يتطلب بروز قيادات حزبية جديدة من قواعد هذه الاحزاب ممن لم تتلوث ايديهم بالمال الاجنبي. وهذا ليس دعوة لاقصاء قادة العمل السياسي الحاليين بقدر ماهو دعوة لفتح الباب أمام مزيد من القيادات السياسية للتصدي الي مهام العمل السياسي والجماهيري، فالساحة السياسية اليوم محتاجة الي المزيد من القيادات السياسية علي كافة المستويات، وهذا لا يتم إلا بالانفتاح علي القواعد الحزبية لجميع الاحزاب ودعم وتشجيع العمل السياسي القاعدي المشترك بين عضوية جميع الاحزاب علي مستوي القاعدة

عدم الاعتماد علي الخارج:

الدرس الثالث هو أن بلادنا تعاني من طبقة رأسمالية قد اثبتت الاحداث أنها في قمتها ضعيفة اقتصادياً وتابعة، وبالتالي فإنها غير قادرة علي النهوض بمهمة بناء اقتصاد وطني حديث يحقق شروط التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. صحيح أن سياسات التمكين والمقاطعة الاقتصادية التي عانت منها هذه الطبقة طيلة سنوات الانقاذ قد اضعفتها ولكن ذلك لا يعفيها من التصدي لعوامل ضعفها الداخلية والمتمثلة في الركون الي تحقيق الارباح عبر فروقات العملة وتجنبها الدخول في مشروعات صناعية وزراعية ذات طبيعة استراتيجية تعمل علي بناء اقتصاد وطني ذو شخصية مستقلة وقبولها بدور الرأسماليات التابعة وهو ما أظهرته بوضوح حرب الخامس عشر من ابريل الحالية.

وهذا ايضاً لا يعني التضييق وحرمان الطبقة الراسمالية الحالية من ممارسة النشاط الاقتصادي، بل فتح الباب أمام مزيد من رجال الاعمال وتشجيع صغار المنتجين لاقتحام مختلف المجالات وتقديم الدعم لهم عبر سياسيات تعمل علي توسيع قاعدة النشاط الزراعي والصناعي وتحقيق الاكتفاء الذاتي عبر سياسيات تعمل علي حماية المنتجات الوطنية وأيجاد ميزة تفضيلية لها تمكنها من المنافسة داخلياً وخارجياً.
الدرس الرابع هو لايوجد صديق حادب علي مصالح الشعب السوداني في هذا العالم، فالشعوب تفرض علي الأخرين صداقتها والقبول بمصالحها الوطنية، والشعب السوداني ما لم يدرك مصالحة جيداً ويدافع عنها بالقوة والشراسة اللازمين سوف يستسهل الاخرون حياضة وسوف ينتهكون حرماته.

بالتالي فإن الاعتماد علي الخارج سواءاً كانت دولاً أو منظمات دولية أو اقليمية دون توفر موقف وطني موحد من قضايا التنمية والبناء السياسي هو في حقيقة الأمر بمثابة القبول بسياسة التبعية والهيمنة. فهناك فرق كبير بين أن تذهب الي العالم حاملاً مطالب الشعب السوداني ومشروعه لبناء السلام المستدام والتنمية وبين أن تذهب اليه طالباً منه أن يتصدى لحلحة مشكلات الشعب السوداني بالإنابة عنه. (يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *