الإثنين, يونيو 30, 2025
مقالات

هل تصنع صمود تحولًا مدنيًا حقيقيًا في السودان؟

بقلم: محمد عمر شمينا

في يونيو 2025، وعلى وقع حرب هي الأعنف في تاريخ السودان الحديث، طرحت قوى مدنية ديمقراطية وثورية وثيقة سياسية شاملة تحت اسم التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود). لم تأتِ الوثيقة كمجرد بيان سياسي، بل كمحاولة جادة لإعادة الإمساك بزمام المبادرة من قِبل القوى المدنية، في وجه حرب تسعى قوى الاستبداد عبرها إلى تصفية ثورة ديسمبر المجيدة ودفن أحلام التغيير والعدالة والمواطنة.

تتميز الوثيقة بشمولها واتساع أفقها السياسي، حيث تبدأ بتشخيص عميق لجذور الأزمة السودانية، وتربط بين حاضر الحرب وذاكرة الاستبداد التي تمتد لعقود، وصولًا إلى انقلاب 25 أكتوبر 2021 واندلاع الحرب في أبريل 2023. هذا الربط ضروري لفهم الحرب لا كمجرد نزاع مسلح بين قوتين، بل كصراع على مصير البلاد بين مشروعين أحدهما استبدادي يعيد إنتاج الدولة القهرية، وآخر مدني ديمقراطي يسعى لبناء دولة الحرية والمواطنة.

تقدم الوثيقة أهدافًا واضحة، مثل وقف الحرب، جبر الضرر، بناء دولة مدنية فيدرالية، تفكيك بنية النظام القديم، وتحقيق العدالة الانتقالية. كما تُفرد مساحة كبيرة للكوارث الإنسانية الناجمة عن الحرب، وتطرح مقترحات عملية لحماية المدنيين، بما في ذلك المطالبة بمنسق أممي خاص وزيادة الدعم للمجتمع المدني المحلي. ولا تكتفي الرؤية بالتحليل والمبادئ، بل تمضي إلى تقديم تصور لهياكل الدولة الانتقالية، مدتها، ومهامها، وترسم بدقة أدوار مستويات الحكم المختلفة، مما يعبّر عن رغبة في تقديم بديل ملموس لا مجرد شعارات.

من بين أبرز ما تطرحه الوثيقة هو تصور لبناء جبهة مدنية عريضة تستند إلى ميثاق سياسي مشترك، سواء عبر الانضمام إلى (صمود) أو التنسيق معها أو إنشاء مظلة أوسع. هذا الطرح يعكس وعيًا بأن تفكيك قوى الثورة وتشتتها هو أحد أسباب تمكن قوى الثورة المضادة من إعادة التموضع داخل مشهد الحرب. لكنه يضع أمام التحالف تحديًا عمليًا كيف يمكن تجاوز الشكوك المتبادلة والانقسامات التاريخية وبناء وحدة حقيقية لا مجرد تحالف موسمي؟ وفي هذا السياق، يكتسب خيار (المائدة المستديرة) التي تقترحها الوثيقة كآلية حوار سوداني_سوداني أهمية خاصة، وإن ظل مشروطًا بتوافر مناخ سياسي وأمني يسمح بهذا النوع من الحوار، وهو ما يبدو بعيدًا في ظل راهن تتنازعه المليشيات والقصف والمجاعة.

رغم ما تتمتع به الوثيقة من شمول وصياغة دقيقة، تبقى أمامها تحديات جوهرية. من ذلك مشكلة التمثيل والتفويض من الذي يملك شرعية التحدث باسم قوى الثورة اليوم؟ وهل تُمثل (صمود) بالفعل كل هذا الطيف؟ الوثيقة تتفادى الحديث المباشر عن هذا السؤال، رغم أنه سؤال محوري في أي مشروع جبهة سياسية. كذلك تبرز معضلة الحسم والموازنة، إذ تتبنى الوثيقة موقفًا حاسمًا ضد الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، وتطالب بإقصائهما من أي عملية سياسية مستقبلية. هذا الموقف مبدئي ومفهوم استنادًا إلى تاريخ متراكم من التعدي على الديمقراطية والعنف الممنهج، لكنه في الوقت ذاته يطرح سؤالًا صعبًا هل يمكن الوصول لسلام شامل دون مخاطبة هذه القوة التي ما زالت مؤثرة ميدانيًا وسياسيًا، وإن بصورة غير شرعية؟ أم أن الإقصاء نفسه ضرورة أخلاقية وتاريخية لا بد من تثبيتها مهما كانت الكلفة؟

ثم يأتي دور المجتمع الدولي. الوثيقة تخاطب الشركاء الإقليميين والدوليين وتدعوهم إلى دعم السلام وبناء الدولة، لكنها لا تتناول بالقدر الكافي التناقضات في المواقف الدولية، ولا تبني استراتيجية واضحة للتعامل مع المحاور الإقليمية والدولية المتصارعة حول السودان. كما أن كثيرًا من البنود الطموحة، مثل إعادة بناء الجيش على أسس قومية، أو تفكيك التمكين، أو بناء نظام تعليمي جديد، تحتاج لأكثر من الإرادة السياسية. تحتاج إلى ميزان قوى اجتماعي وسياسي قادر على فرض هذه التحولات، وهو ما لا تجيب عليه الوثيقة بدقة.

(صمود) ليست فقط اسمًا لتحالف، بل إعلان نية لمواصلة المعركة السياسية رغم ظروف الانهيار الشامل. في وقتٍ تتراجع فيه الأصوات المدنية وتتصاعد لغة السلاح والانقسامات، تُعيد الوثيقة الاعتبار لفكرة الدولة، ولفكرة التغيير من موقع مدني غير مسلح. إنها محاولة لاستعادة زمام المبادرة، لكنها تحتاج إلى ترجمة هذا النص النظري إلى عمل سياسي واسع، يخترق الشارع ويعيد بناء الثقة مع الجماهير التي دفعت ثمنًا باهظًا في الثورة والحرب. وهنا يبرز السؤال الجوهري هل تستطيع قوى الثورة، بعد سنوات من الانقسام والفقد، أن تبني كتلة تاريخية جديدة تنبع من القاعدة الاجتماعية المتضررة من الحرب والاستبداد؟ أم تبقى الرؤية حبيسة الورق في انتظار لحظة مواتية لا تأتي إلا عندما يكون الوقت قد فات؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *