الثلاثاء, يوليو 1, 2025
مقالات

ديناميات الصراع في السودان وتداعياتها على العمل الإنساني والمجتمع المدني (2-6)

كتب: عبد المنعم الجاك

السودان قبل حرب 15 أبريل

أطاحت ثورة ديسمبر 2018، بالنظام الإسلامي الحاكم لحزب المؤتمر الوطني، والذي ظل يحكم البلاد لأكثر من ثلاثةعقود. وقد تم الاحتفال بالثورة السودانية عالميا باعتبارها دليلا على مقدرات حركة مدنية سلمية، بقيادة الشباب والنساء والمجتمع المدني والأحزاب السياسية، مًن الإطاحة بدكتًاتورية متجذرة.
وكانت الحقبة التي سبقت الحرب في السودان في 15 أبريل 2023 قد اتسمت بأنها مزيج من الأمل والتحديات وعدم اليقين بشأن مستقبل البلاد بعد الثورة؛ حيث كان السودان على مفترق طرق، مع وجود فرص حقيقية لتحقيق سلام شامل وتحول ديمقراطي، لكن تزامنت معها مهددات الانقسامات السياسية، واستمرار النزاعات المسلحة في أطراف البلاد، بالإضافة للتحديات الاقتصادية.

لقد أسقط السودانيون في ثورة ديسمبر نظام الحكم التسلطي الديكتاتوري للحركة الإسلامية ممثلة في حزب المؤتمر الوطني، والذي استمر في السلطة لأكثر من ثلاثة عقود. وكانت الثورة انتصارا للحرية والسلام والعدالة، حيث احتفل بها العالم وبعودة السودان للأسرة الدولية كعامل بناء واستقرار، بعد تاريخ طًويل من تهديد للسلم والأمن الدولي والإقليمي. كما قدمت ثورة ديسمبر نموذجا جيدا حول كيف يمكن لحركة مدنية سلمية، قوامها الشباب والنساء والمجتمع المدني والأحزاب السياسية، من أنً تهزًم نظاماً تسلطياً وقمعياً ظل حاكماً بسلطة الحديد والنار لعقود طويلة.

وبالرغم من التفاؤل الذي أحاط بفترة الحكم الانتقالي، فقد حالت التعقيدات والتحديات دون اكتمال ذلك المسار؛ حيث ظلت الفترة الانتقالية في حالة صراعات مستمرة بين المكونين المدني – ممثلا في قوى الحرية والتغير – والعسكري – ممثلا في القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع – حول قضًايا السلطة والثروة والإصلاح المؤسسي. وظل نفًوذ الدولة العميقة لحزب المؤتمر الوطني المنحل قائما بوضوح في العديد من المؤسسات الحكومية، مما أدى إلى عرقلة جهود الإصلاح، وتعطيل تحقيق العدالة ومحاسًبة المسؤولين عن جرائم النظام السابق ،ومقاومة إصلاح القطاع الأمني. كما شملت التحديات أيضا إثارة الصراعات الإثنية، والأزمات الاقتصادية، والديون الخارجية، وارتفاع معدلات التضخم، والفساد الهيكلي للنظامً القديم.

وعلى الرغم من هذه العقبات العديدة التي وضعها المكون العسكري بشقيه )القوات المسلحة والدعم السريع( ومتبقى الدولة العميقة، تمكنت الحكومة الانتقالية المدنية من تحقيق نجاحات معقولة، بما في ذلك إعادة وضع السودان على الخارطة الدولية برفع اسمه من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وفي إحراز تقدم إيجابي في تخفيف الديون وتحقيق الاستقرار الاقتصاد نسبيا، وفي فتح مجال الحريات واحترام حقوق الإنسان، وبدء الإصلاحات المؤسسية بتفكيك النظام القديم وعمليات الًإصلاح المؤسسي. هذه النجاحات المحدودة دعت المكون العسكري بشقيه للانقلاب على المكون المدني في 25 أكتوبر 2021، ومن ثم إجهاض برامج الإصلاح التي ابتدرتها السلطة المدنية الانتقالية.

وفي أعقاب الانقلاب العسكري، واجهت كل من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع صعوبات كبيرة في الحكم بسبب الاحتجاجات والرفض الشعبي الواسع له. وسرعان ما ضربت الخلافات المؤسستين العسكرتين، وهو الخلاف الذي لعب حزب المؤتمر الوطني المحلول الدور الرئيسي في تعميقه بينهما. وفي المقابل، حاولت القوى المدنية التوسط ولعب أدوار تحول دون انفجار الخلافات بين الجيش والدعم السريع وتحولها إلى صراع مسلح؛ حيث أطلقت العملية السياسية للاتفاق الإطاري، والتي كان من ضمن مساعيها إصلاح المنظومة العسكرية والأمنية، واستعادة النظام الدستوري والحكم المدني. ولكن هذه الجهود باءت بالفشل ولم تنجح في نزع فتيل الحرب، حيث تصاعدت التوترات بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، إلى ان تحولت إلى حرب شاملة بينهما في 15 أبريل 2023..

تطورات المسرح العسكري والأمني

اتسم المسرح العسكري-الأمني خلال حرب السودان بتحولات دراماتيكية كبيرة، سواءً في مساراتها، أو في المقارنة بينها وبين حروب السودان الأخرى. فعلى خلاف الحروب السابقة في السودان، التي ظل معظمها يشتعل ويستمر لعقود في أطراف البلاد وفي الأرياف البعيدة من المركز، جاء اندلاع حرب 15 أبريل 2023 في قلب عاصمة البلاد الخرطوم، بسيطرة قوات الدعم السريع على مركز السلطة والمال والرموز السيادية التاريخية، وانسحاب المركز السياسي والسيادي التاريخي نحو تخوم شرق البلاد الى مدينة بورتسودان>

وبعد الاستيلاء السريع والمفاجئ لقوات الدعم السريع على العاصمة الخرطوم، وظفت مقدراتها العسكرية من كثافة النيران والأعداد الكبيرة من القوات ،في الانتشار والاستيلاء على مساحات واسعة في وسط وغرب وجنوب السودان؛ حيث استولت على معظم مناطق دارفور، باستثناء بعض الجيوب ومدينة الفاشر المحاصرة في شمال دارفور، وعلى مناطق واسعة في ولايات كردفان الكبرى الثلاثة، وولاية الجزيرة، وعلى أجزاء معتبرة من ولاية سنار والنيل الأبيض.
وفي المقابل ظلت القوات المسلحة تحافظ على سيطرتها على ولايات شرق السودان الثلاثة ) القضارف، كسلا، والبحر الأحمر(، وولايتيّ نهر النيل والشمالية، فضلاً عن بعض الجيوب في المناطق التي احتلتها قوات الدعم السريع.

وتعود الغلبة العددية الكبيرة لقوات الدعم السريع لنجاح قيادتها في التعبئة والتجنيد الواسع وسط الحواضن الاجتماعية والجهوية في غرب البلاد، خاصة بعد استهدافها لقيادات الإدارات الأهلية هنالك، وإعلان انحياز قيادات معظمها لجانب الدعم السريع. هذا إضافة الى حشد أعداد من القوات من بين القبائل المشتركة بين غرب السودان ودول جواره.

وبعد عام ونصف، وبداية العام 2025، بدأت القوات المسلحة السودانية في استعادة مقدراتها الحربية ومعالجة قصورها السابق وبدأت في شن هجمات مضادة. حيث استعادت في البداية ولاية سنار، ثم ولاية الجزيرة في وسط البلاد ،ثم استعادت جميع مناطق العاصمة بولاية الخرطوم، بما فيها الرموز السيادية مثل القصر الجمهوري والقيادة العامة للقوات المسلحة ومقار الوزارات الاتحادية.

والملاحظ في معظم التقدمات التي حققها بها الجيش السوداني واستعادته للعديد من المدن والأراضي أنها لم تتم عبر مواجهات عسكرية كبيرة وواضحة بين الطرفين، حيث راجت تكهنات بأن اتفاقات غير مباشرة قد تمت بينهما نتج عنها الانسحابات وإعادة تموضع قوات الطرفين في مواقعها الحالية. ويرجح هذه التكهنات الخروج الآمن، نسبياً، لقوات الدعم السريع دون مهاجمة الطيران الحربي للقوات المسلحة وعبورها نحو الضفة الغربية للنيل الأبيض، خارج مركز العاصمة الخرطوم .
وباستعادة القوات المسلحة للعاصمة، يمكن وصف مسرح العمليات العسكرية بتقاسم طرفيها الرئيسيين والفصائل المصطفة مع أي منها لجغرافية السودان بنسب تكاد تكون متساوية. فبينما تعيد القوات المسلحة السيطرة على مواقع عديدة في الوسط والضفة الشرقية للنيل الأبيض وضفتيّ النيل الأزرق مع التحرك العسكري المحدود والحذر نحو غرب البلاد، نجد أن الدعم السريع يحاول أن يكمل فرض سيطرته على كامل ولايات كردفان الثلاث ودارفور الكبرى، وأن يتقدم في ولاية النيل الأزرق، بالإضافة الى المناطقة المتاخمة للضفة الغربية للنيل الأبيض.

ومن الملاحظ أيضا، أن القوات المسلحة قد تمكنت بعد صدمة هزائمها الأولى من ملء فراغ عددية القوات المقاتلة ،وذلك عبر فتح معسًكرات الاستنفار والتجنيد العسكري للمواطنين. ويظهر في قيادة حملات التعبئة هذه كوادر الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني المحلول، بما فيها قيادتهم للمقاومة الشعبية والمشاركة في المعارك العسكرية بصورة مباشرة عبر تشكيلاتهم العسكرية المختلفة. كما ساهمت بصورة ملحوظة في التقدم العسكري للقوات المسلحة مشاركة القوة المشتركة لعدد من الحركات الموقعة على اتفاقية جوبا، مثل حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة. كما تشمل القوات المتحالفة مع القوات المسلحة عشرات المليشيات القبلية من النيل الأزرق وشرق السودان، بإضافة لقوات درع السودان، والتي حاربت خلال العام الأول من الحرب إلى جانب قوات الدعم السريع، وغيرت ولائها مؤخراً إلى القتال إلى جانب القوات المسلحة.. (يتبع)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *